«عكاظ» (جدة)

لم تكن زيارة وفد حكومي محملاً بـ23 حقيبة متخمة بالمال إلى العراق نزهة، أو تسلم الرهائن القطريين من الحكومة، بل جاءت الزيارة كنتيجة لاتصالات حكومية قطرية مع ميليشيات إرهابية في العراق وسورية، وتمويل تلك الميليشيات تحت غطاء «الفدية» التي اعتاد النظام القطري ضخ الأموال للإرهابيين عبرها.

وأعادت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، فتح ملف الفدية التي دفعها النظام القطري لجماعات إرهابية مقابل الإفراج عن رهائن قطريين في سورية والعراق، موضحة أن القطريين تمكنوا من تحرير رهائنهم بعد دفع 770 مليون دولار، ما يؤكد طبيعة الاتصالات المتقدمة والمفتوحة بين الدوحة والميليشيات الإرهابية في العراق.

ووفقاً لتقرير الصحيفة المطول والمنشور أمس الأول (الأربعاء)، فإن الرهائن القطريين وقعوا في الأسر بعد قيامهم برحلة صيد في صحراء العراق، في وقت تعاني الأراضي العراقية من تفلت رهيب في الأمن، فتنظيم داعش يسيطر على أجزاء واسعة من الغرب والجنوب الغربي، كما أن ميليشيات إيران الطائفية تحكم قبضتها على أجزاء واسعة من البلاد، حتى أن الصحيفة وصفت العراق بأنه «أبعد من أن يكون وجهة سياحية لهواة الصيد».

وكشفت الصحيفة أن جزءا من الأموال المنقولة (360 مليون دولار) تم تقديمها لجماعات إرهابية، لافتاً إلى أنه في نهاية المطاف «ربما تكون الأموال أقل أهمية من الأبعاد السياسية للاتفاقية التي عقدتها الدوحة مع هذه الجماعات».

ولفتت الصحيفة إلى أن تمويل قطر بمئات الملايين ذهب إلى الحرس الثوري الإيراني وحزب الله الإرهابي وجبهة النصرة (فرع القاعدة الإرهابي في سورية)، كاشفة عن ذهاب قطر إلى أبعد الحدود من أجل إطلاق سراح الرهائن، وذلك عبر موافقتها على خطة إيرانية تتضمن نقلاً قسرياً ومميتاً للسكان في سورية حسب اتفاق البلدات الأربع؛ إذ يأتي التقرير بعد قرابة عام على الصفقة.

23 حقيبة سوداء

وسرد التقرير قصة قدوم شخص قطري إلى صالة كبار الشخصيات في رحلة مسائية في 15 أبريل من العام الماضي، وعرف بنفسه «مبعوثاً حكومياً رفيع المستوى»، وأشار إلى زملائه الـ 14 شخصاً الذين يرتدون اللباس القطري المحلي برفقتهم 23 حقيبة سوداء «ثقيلة جداً وتزن الواحدة منها أكثر من 100 باوند، إلى درجة أن الحمالين واجهوا صعوبة في إدخالها إلى الغرفة».

وأصر العراقيون على ضرورة أن يتم تفتيش جميع الحقائب، وحملت كل حقيبة كومة من مربعات تشابه الطوب ملفوفة بشريط أسود لم يستطع جهاز الماسح الضوئي اختراقها، ما زاد إصرار العراقيين على تفتيشها لمعرفة ما في داخلها، الأمر الذي رفضه القطريون.

وغادر المسؤولون القطريون المطار دون أن يصطحبوا حقائبهم التي اكتشفت السلطات العراقية أنها تحوي 360 مليون دولار، وبعد مرور أسبوع، ظلت الأموال محتجزة، وغادرت المجموعة القطرية بغداد بنفس الطائرة التي جاءت بها، ولكنهم كانوا مصحوبين بأكثر من 20 قطرياً من بينهم أحد أعضاء عائلة آل ثاني الحاكمة في قطر الذي كان مختطفاً خلال رحلة صيد في جنوب العراق قبل 16 شهراً.

ولم يتم التطرق إلى ما حصل في هذه الرحلة التي تضمّنت اتفاقية شملت فدية كبيرة جداً ومعقدة دفع من خلالها القطريون مبالغ ضخمة لإرهابيين؛ لبث التقسيم الطائفي في الشرق الأوسط وتغذية الحروب الأهلية في المنطقة.

وتجاوزت التكلفة على قطر ما يزيد على 360 مليون دولار، إذ إنه في نهاية المطاف كان البُعد السياسي للصفقة أكثر أهمية من استعادة رهائنها؛ إذ أجرت قطر مفاوضات حول تهجير سكاني محكم ومدروس في سورية، باستخدام الميليشيات الثائرة التي تمولها للتهجير القسري لكل مواطن في أربع بلدات ذات مواقع إستراتيجية، كما أن عمليات التهجير تحرز تقدماً إزاء هدف طهران الأكبر، والذي يتمثل في تحويل سورية إلى جانب العراق ولبنان واليمن إلى دول تابعة لها، والتي ستضمن دوراً إيرانياً مهيمناً في جميع أنحاء المنطقة.

ووصفت الصحيفة الاتفاق بـ«الغامض» والذي كان بمثابة صدمة لهدف إدارة «ترمب» في دحر العدوان الإيراني، وبالنسبة لآلاف من الشعب السوري الذين يعانون من المجاعة، في ظل اتفاق غامض.

وفي أواخر نوفمبر من عام 2015، غادرت مجموعة كبيرة من صيادي الصقور القطريين الدوحة في رتل من مركبات الدفع الرباعي، متجهين إلى الجنوب. وعبروا الحدود السعودية، ومن ثم تحول الموكب إلى الشمال، ومروا عبر جزء من دولة الكويت واستمروا في وجهتهم، ووصلوا إلى الصحراء الجنوبية للعراق التي تبعد عن الدوحة 450 ميلاً، وتتألف المجموعة من عشرات الأشخاص، بما في ذلك الخدم؛ إذ يقودها تسعة أعضاء من الأسرة الحاكمة في قطر، من أفراد آل ثاني.

واختارت رحلة الصيد محافظة المثنى العراقية التي تضم صحراء مليئة بالقنابل العنقودية والألغام التي خلفتها ثلاثة عقود من الحروب المتقطعة.

وفي ظل سيطرة تنظيم «داعش» على الجزء الأكبر من الشمال، وانتشار الميليشيات الإيرانية الطائفية في أماكن أخرى، فإن العراق أبعد ما تكون عن وجهة سياحية مرغوب فيها، وسمع القطريون تقارير محيرة حول تصاعد أعداد السكان، على الرغم من التحذيرات بشأن المخاطر المحتملة، إلا أنهم لم يستطيعوا مقاومة هذه الفرصة، وخلال الأسابيع الثلاثة القادمة، كان يتجول الصيادون عبر الصحراء إلى جانب الحراس الذين استأجروهم، كما كانوا بين فينة وأخرى يهبون هدايا باهظة للبدو؛ لضمان سلامتهم.

وتسرد الصحيفة تفاصيل الهجوم على الصيادين القطريين بالقول «بحلول 15 ديسمبر كانوا على وشك العودة إلى الديار، وفي تلك الليلة استيقظ أحد أعضاء الصيد -آل ثاني البالغ من العمر 37 عاماً، والذي ندعوه بـ «أبي محمد»، وتحدث بشرط عدم الكشف عن اسمه - جراء دخول أحد الخدم مسرعاً يركض إلى خيمته». وكان الخادم مرعوباً، وقال: هنالك جنود في جميع أنحاء المخيم، استيقظ «أبو محمد» ولبس بسرعة، ونظر من خلال الخيمة؛ إذ رأى رجالاً يرتدون الزي العسكري وعشرات السيارات والشاحنات مثبت عليها رشاشات ثقيلة.

واقتاد الخاطفون الرهائن القطريين في شاحنة، وكانوا يسمعون صوت طائرات تقلع وتهبط وأصوات جنود، إضافة إلى الأوامر العسكرية والتحيات، كانوا يسمعون «يا حسين»، ولم يتمكن الرهائن من تحديد موقعهم، ولكنهم كانوا على الأرجح قرب قاعدة طليل الجوية بالقرب من الناصرية، إحدى أكبر المنشآت العسكرية جنوب العراق.

وتم احتجاز الأسرى في القاعدة لعدة أيام، ثم عُصبت أعينهم مرة أخرى، وتم اقتيادهم إلى منزل، إذ تم حبسهم في زنزانات في الطابق السفلي.

وكان خبر الاختطاف قد وصل إلى قطر في نحو الساعة السادسة صباحاً، وقد جرت على إثر ذلك سلسلة من المكالمات الهاتفية العاجلة بين مسؤولي الحكومة وأفراد الأسرة الحاكمة، وقد أبرز ذلك الخبر الجانب السلبي لظهور قطر المفاجئ على الساحة.

الرجل الأخطر!

وفي غضون أيام من اختطاف الصيادين القطريين، تأكدت الحكومة في الدوحة أنه من شبه المؤكد أنهم محتجزون لدى ميليشيا شيعية على علاقة بإيران، وهو ما يضع مصيرهم في يد الرجل الأخطر في العالم، الجنرال قاسم سليماني رئيس الحرس الثوري الإيراني، لكن «سليماني» لم يكن يهتم بأموال الفدية، فأولويته لسنوات هي سورية.

ووصفت الصحيفة الرهائن القطريين بـ«بيادق قيمة في هذه اللعبة الجيوسياسية»، وأكدت أن قطر تمتلك نفوذاً قوياً مع فصائل المتمردين التي تمولها وهو ما يمثل عاملاً مفيداً للجنرال الإيراني، ففي ذلك الوقت كان «سليماني» وحلفاؤه من «حزب الله» يبحثون عن طرق جديدة لتعزيز السيطرة على مناطق رئيسية معينة بالقرب من العاصمة السورية: ليس فقط من خلال قتل المقاتلين المتمردين، بل طرد السكان المدنيين السنة الذين كانوا يحمون المتمردين.

إفراج بعد 16 شهراً

وتقول «نيويورك تايمز» إنه بعد عملية خطف الصيادين القطريين، اكتسبت إيران بعض النفوذ القوي على هؤلاء المتمردين السنة أنفسهم -أو بالأحرى على مانحهم الرئيسي في الدوحة- وعادت خطة إخلاء المدن الأربع إلى الطاولة، وذكرت الصحيفة تفاصيل عن تعثر المفاوضات لأشهر؛ إذ ظل الرهائن القطريون طيلة 16 شهراً، لكن في نهاية المطاف تمّت عملية التغيير الديموغرافي في سورية تحت مشهد من العنف والقصف، كما تم الإفراج عن الرهائن في أبريل الماضي، بعد دفع الدوحة نحو 770 مليون دولار للميليشيات المسلحة وذلك من خلال دفعتين.