هادي اليامي

استحداث مخططات سكنية في الأراضي العامة، والبناء في مجاري السيول والأودية من صور الفساد الذي يتعدى ضرره الحصول على المال العام فقط

بعزم جديد، تواصل القيادة السعودية إصرارها على السير في طريق الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد، والسعي الحثيث لاستئصال آفة الفساد من مجتمعنا، أيا كان مجالها، ماليا أو إداريا، وتعيد التأكيد على أنه لا مكان في بلادنا لتلك الفئة التي ارتضت لنفسها أن تغتني وتحقق مكاسب ذاتية سوداء على حساب بقية شرائح المجتمع، وأن يد العدالة سوف تطالها، وأن مناخ الإصلاحات الاقتصادية والمجتمعية الذي يتمسك به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لإيجاد بيئة استثمارية معافاة يقتضي توفر بيئة الشفافية والمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، كما يتطلب إنفاذ المنظومة القانونية التي تراقب سير العمل، وتمنع حدوث التجاوزات التي تعيق تدفق الاستثمارات الأجنبية، وانطلاق حركة القطاع الخاص.

وخلال الأيام الفائتة توّج خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، تلك الجهود الرامية لاجتثاث الممارسات السالبة، بموافقته الكريمة على استحداث دوائر متخصصة لقضايا الفساد في النيابة العامة، تتولى التحقيق والادعاء في قضايا الفساد وجرائم الوظيفة العامة، ومعالجة التجاوزات الجنائية المتعلقة بالإخلال بواجبات الوظيفة، على أن ترتبط تلك الدوائر المتخصصة مباشرة بالنائب العام. هذه الموافقة الملكية الكريمة تأتي في إطار تأكيد القيادة الرشيدة عزمها مواصلة حماية الوطن ومقدراته، والمحافظة على المال العام، وضمان نزاهة الوظيفة العامة، والنأي بها عن كل ما من شأنه تحويلها إلى أداة تحقيق مصالح خاصة.

وبدءا لا بد من تأكيد أن الفساد المالي والإداري لا يقتصر فقط على مجرد سرقة المال العام، سواء عن طريق الرشاوى أو الاختلاس، بل إن هناك صورا أخرى أكثر ضررا وأشد سلبية من ذلك، فتسهيل حصول أحدهم على منفعة حكومية دون وجه حق هو فساد، والتواطؤ مع الآخرين للالتفاف على القوانين والنظم المالية فساد، والاستيلاء على أراضي الدولة ومقدراتها فساد، ومصادرة الحدائق والمتنزهات وتحويلها إلى مرافق خاصة فساد، واستحداث مخططات سكنية في الأراضي العامة، والبناء في مجاري السيول والأودية فساد، وهذه الأنواع الأخيرة من صور الفساد الذي يتعدى ضرره الحصول على المال العام فقط، لأنه يتسبب في سقوط ضحايا أبرياء، على غرار ما شاهدناه في كوارث سيول جدة خلال السنوات الماضية.

الدولة ممثلة في أعلى مستوى قيادتها أعلنت حربا لا هوادة فيها على كل من يسمح لنفسه بممارسة هذا السلوك الانحرافي غير السوي «كائنا من كان» كما قال خادم الحرمين الشريفين في جملته الشهيرة، وأنشأت لأجل تحقيق هذه الغاية دوائر متخصصة لقضايا الفساد في النيابة العامة، لأجل أن يتم التحقيق مع المتهمين بواسطة جهاز متخصص ومتفرغ لمحاربة هذه الظاهرة المسؤولة عن كثير من التشوهات الإدارية التي أعاقت استمرار مسيرة التنمية في بلادنا، مثل ضياع مئات المليارات من الدولارات، ومساحات شاسعة من الأراضي الحكومية، وانخفاض مستوى الأداء في كثير من الأجهزة الحكومية، وتعثر العديد من المشاريع وتوقفها، وغير ذلك مما لا يمكن حصره في هذه المساحة، إلا أن أبلغ الأضرار التي نتجت عنها تتمثل في إصابة كثير من الشباب بالإحباط، بسبب عجزهم عن الحصول على فرص وظيفية يستحقونها، بسبب تغول كثير من غير المؤهلين عليها بفعل الواسطة والمحسوبية واستغلال النفوذ.

ظاهرة الفساد المالي والإداري تنال اهتمام جميع دول العالم، لما لهذه الظاهرة الخطيرة من انعكاسات وآثار سلبية على مستقبل الدول اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وسياسيا في جميع مناحي الحياة. لذا فإنه يجب مضاعفة الجهود الحكومية والرقابية لإصلاح مؤسسات الدولة، وجعلها أكثر فعالية وشفافية، على أن تحظى هذه الجهود الحكومية بمساندة ومشاركة مؤسسات المجتمع المدني، ودعم تأسيسها باعتبارها شريكا أساسيا في تنظيم المجتمعات وحمايتها وتطويرها، ومشاركة الأفراد في رسم وتنفيذ الخطط التنموية والبرامج الإصلاحية. حيث تضطلع هذه المؤسسات بدور مهم وحيوي في مجال تعزيز الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد. 

يأتي ذالك مواكبة لبرنامج التحول الوطني ورؤية المملكة 2030 في ما من شأنه تعزيز الشفافية والنزاهة، وستكون بإذن الله رافدا مهما وشريكا أساسيا في تحقيق التطلعات المنشودة في تطبيق مبادئ الحوكمة. كما أن هذه المؤسسات سوف تعمل على تخفيف الأعباء عن الدولة، ومساندة الأجهزة الرقابية في أداء أعمالها التوعوية والوقائية والإصلاحية في مجال مكافحة الفساد ونبذه وتعزيز الشفافية والنزاهة، وستكون رافدا مهما وشريكا أساسيا في تحقيق التطلعات المنشودة في تطبيق مبادئ الحوكمة. إذ إن تضافر الجهود يساعد في تضييق الخناق بصورة أكبر على الفساد، مما يؤدي إلى تحسين ترتيب المملكة في المؤشرات الدولية المعنية بالشفافية ومكافحة الفساد كمؤشر مدركات الفساد (CPI) الصادر عن منظمة الشفافية الدولية (TI).

كل ذلك، إضافة إلى الموافقة الملكية الأخيرة على إنشاء الدوائر المتخصصة بقضايا الفساد في النيابة العامة يؤكد حقيقة واضحة للعيان، هي أن المجتمع السعودي يعيش لحظة فارقة في تاريخه، ويمر بمنعطف رئيسي، وأن أوان الإفلات من العقاب قد فات، وأن الدولة التي تبذل جهودا كبيرة لأجل رفاهية وسعادة ومصلحة مواطني هذه البلاد، ويقدم قادتها في سبيل تحقيق هذه الغاية الغالي والنفيس، ليست على استعداد للتضحية بكل ذلك، إرضاء لخواطر من الذين ارتضوا لأنفسهم أن تتسلل أياديهم في الظلام لسرقة كل تلك الجهود، وإن كان على حساب أصحابها الحقيقيين ومستقبل أجيالهم المقبلة.