سلطان البازعي

 المكان في بيروت، والزمان يسبق انطلاقة الثورة السورية بأشهر قليلة، كنت وأحد الأصدقاء مدعوين للعشاء في منزل رجل أعمال لبناني بارز، وسط حضور متنوع من السياسيين ورجال الأعمال والصحافيين والمثقفين من أطياف مختلفة، لا يمكن أن تجتمع في مكان واحد وعلى مائدة واحدة إلا في بيروت وفي ضيافة رجل من نوع مضيفنا الذي يسمو على الطائفية الضيقة، ويرفض أن يجعل من السياسة عنصر هدم للإبداع اللبناني في النشاط الاقتصادي والعلمي والثقافي.

تكرّم علينا مضيفنا بالحفاوة حين أجلسنا في الركن الرئيس من صالونه الفسيح برفقة وجوه وأسماء دائمة الحضور في المشهد اللبناني، منهم وزراء ونواب حاليون وسابقون، وكانت أحداث الربيع العربي مسيطرة على مجرى الحديث كونها ما زالت شديدة السخونة، وللحقيقة فإنني أعترف أنني كنت أرعن حين طرحت سؤالاً لم أعرف كيف يمكن أن أرجعه إلى حبالي الصوتية، ولم أدرك فداحته إلا حين رأيت الحدقات تتسع والوجوم يسيطر على وجوه وملامح غضب على وجوه أخرى. كان سؤالي هو: هل ستكون سورية هي الساحة المقبلة؟ وببراعة أنقذ أحد الحضور الموقف بإدارة الحديث وجهة أخرى، بعد أن أكد أن سورية ستظل قوية وصامدة في عهد الرئيس القائد بشار الأسد «الله يطول بعمرو» كما قال.

أدركت في تلك الليلة أن بيروت لم تتغير وأن «الردع السوري» ما زال يجثم على صدرها، مثلما كانت الحال في ذلك اليوم من شهر كانون الثاني (يناير) 1994، حين وصلت إلى مطار بيروت وفوجئت عند دخولي إلى صالة الجمارك بصورة جدارية ضخمة تنعى باسل الأسد الشهيد الفارس العقيد... (وسطر طويل من الألقاب)، ووجدت القسم الغربي من بيروت الذي ما زال يلملم جراح الحرب الأهلية، في حال حداد قسرية، ولم يكن من الممكن للزائر أن يخرج من كآبتها وثقلها على النفس إلا بالانتقال إلى القسم الشرقي من العاصمة الذي حافظ على حاله الزاهية كأن لم تمسه الحرب.

هذه مقدمة طويلة كان لا بد منها لفهم تصريحات السيد حسن نصرالله الأخيرة، التي سارع حزبه لنفيها، ولمحاولة فهم هذا النفي السريع والقاطع.

أصبح معروفاً لدى اللبنانيين أن صيغة التعايش التي قام لبنان على أساسها، والتي تم تأكيدها في اتفاق الطائف 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية برعاية الملك فهد بن عبدالعزيز، لم تعد قائمة منذ اغتيال رفيق الحريري 2005 واجتياح بيروت من ميليشيات حزب الله 2008 وتعطيل الاستحقاق الرئاسي لأكثر من عامين، وأن هذه الصيغة غير قابلة للعودة للحياة أو تطويرها ما دام «الشريك المخالف» يرفع سلاحه فوق سلطة الدولة.

تصريحات نصرالله التي نفاها حزبه، نشرت في موقع «فردا نيوز» الإيراني المقرب من المرشد الأعلى خامنئي، وقال الموقع أنه أدلى بها في اجتماع خاص مع أفراد من الجالية الإيرانية في لبنان، وبعد أن نفى حزب الله هذه التصريحات ووصفها بأنها ملفقة من أساسها، اضطر الموقع لسحبها والاعتذار عن نشرها موجهاً اللوم للمراسل الذي نقلها عن «مصادر غير موثوقة».

أبرز ما جاء في هذه التصريحات المنسوبة لنصرالله هو قوله: «أن مكانة ولاية الفقيه فوق الدستور اللبناني، وتنفيذ أوامره واجب إجباري»، وهذا تصريح ليس جديداً منه فهو بنفسه سبق أن قال في تصريح متلفز وموثق أن مشروعه للبنان «ليس أن يكون جمهورية إسلامية، بل أن يكون جزءاً من الجمهورية الإسلامية التي يقودها صاحب الزمان ونائبه في الحق الولي الفقيه الإمام الخميني».

وفي التصريحات «المنفية» جاء قوله إن «حزب الله ولد مع الثورة الإيرانية، وهو أهم تجربة لولاية الفقيه خارج إيران»، والجديد في هذه العبارة هو الربط المباشر بين نشأة حزب الله ومشروع ولاية الفقيه التوسعي في المنطقة، وإلا فإن نصرالله سبق وأن قال كلاماً مشابهاً في خطاب متلفز وموثق: «نقولها ونحن فوق السطح، إن معاشات حزب الله وأكله وشربه وسلاحه وصواريخه تأتي من الجمهورية الإسلامية الإيرانية».

إلا أن النقطة الأبرز في هذه التصريحات جاء في قوله عن سورية: «نحن لا نقاتل من أجل بشار الأسد، بل من أجل التشيع... ولولا حزب الله وإيران لسقطت سورية»، ويبدو أن هذا التصريح هو سبب سحب التصريحات ونفيها بهذه الحدة من حسن نصرالله والموقع الإخباري الإيراني، فعلى رغم أن نصرالله قال لمقاتليه وهو يدفع بهم إلى ساحات القتال إنهم ذاهبون للدفاع عن وحماية المراقد المقدسة في الشام التي تتعرض لهجمات «التكفيريين»، إلا أن إطلاق هذا التصريح في هذا التوقيت بالذات يسيء في شكل بالغ للتحالف الذي يدافع عن نظام بشار الأسد، لذا أتخيل أن الاتصالات لم تنقطع بين الضاحية الجنوبية ودمشق وموسكو وطهران حتى صدر النفي وتم سحب التصريحات من الموقع.

و «السيد» حسن نصرالله، وهو سيد لأنه ينتمي لآل البيت كما يقول، ومن موقعه المقدس لم ينس في تصريحاته أن يروي تاريخ التشيع في لبنان من وجهة نظره، كما أنه سمح لنفسه بتوزيع بعض القداسة على حلفائه فهو يقول، كما نسب إليه، إن الرئيس اللبناني ميشال عون هو من سلالة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبغض النظر عن كون هذا التصريح صدر عن نصرالله شخصياً أو أنه من تأليف آلة الإعلام «الخامنئية»، فإنني لست واثقاً بأن الرئيس عون سيرتدي عمامة سوداء في أي وقت قريب.

لهفي على لبنان الحضارة والديموقراطية والحرية الذي لا يستطيع أن يوجه تهمة الخيانة العظمى والعمالة لدولة أجنبية وتحقير الدستور والخروج عليه لرجل يتحدث بلغة من خارج التاريخ.