عبد المنعم سعيد

 الصورة الشائعة عن الشرق الأوسط في العالم سلبية للغاية، فهي منطقة للتطرف والعنف وامتهان المرأة وغياب الحريات العامة، وعامرة بالصراعات الإقليمية والحروب الأهلية، هي باختصار مصدر مستمر للصداع الدولي، ومجال لنفوذ القوى الدولية غير الديمقراطية، مثل الصين وروسيا.

وكثيراً ما كان مفهوم «الشرق الأوسط» مختلطاً بالعالم «الإسلامي»، وأكثر من ذلك المنطقة «العربية» عندما يراد التخصيص لأشكال مختلفة من التخلف والعجز في التعامل مع العالم والعصر. وفي كثير من الأدب السياسي الشائع فإنها منطقة، أو مناطق، ذات طبيعة استثنائية خارج التاريخ والعلم والزمن. الطريف أن الإعلام الغربي، والجامعات الأكاديمية الغربية، والساسة الغربيين في العموم، ومؤسساتهم العلمية والاقتصادية، كثيراً ما تطالب أهل منطقتنا بالإصلاح والتعلم من تجارب الدول التي تسبقنا؛ لكن حال حدوث ذلك فإنهم سرعان ما يضعون أياديهم على قلوبهم لاعتبار ذلك نوعاً من الحماقة التي سوف تؤدي إلى انفجار الأوضاع؛ نظراً لوجود المعارضة الكامنة لكل ما يغير الأوضاع القائمة التي تخدمها مصالح وعادات وتقاليد لا يمكن التعامل معها من منطلقات «غربية»! باختصار، وكما يقال في الغرب، إن أهل الشرق الأوسط ملعونون إذا قاموا بالإصلاح، وملعونون إذا لم يفعلوا؛ وما زاد الطين بلة أن «الربيع العربي» المزعوم نتج منه من المذابح والحروب الأهلية والصراعات الإقليمية والتدخلات الدولية والعصابات الإرهابية والانتكاسات السياسية ما يدعم وجهات النظر هذه.

العيب الرئيسي في كل ما يقال عنا هو أنه يجعلنا خارج العلم وخارج التاريخ، فالعيوب والسلبيات المذكورة تصير نوعاً من العيوب الخلقية التي تصيب بعض جينات البشر فيكونون على هذا النحو أو ذاك. لكن الواقع ليس كذلك رغم التسليم بأن السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فإن المنطقة كلها اهتزت بشدة، وجرى لها ما جرى من مشاهد مفزعة ظهرت في منظمات إرهابية ومتطرفين ومشاهد القتلى والجرحى والمدن المدمرة. فالأخبار الطيبة أن الأسوأ في الأوقات صار وراءنا الآن، وهناك من المشاهد ما يبشر أن المنطقة العربية في سبيلها إلى التعافي، وعندما يحدث ذلك فإن الشرق الأوسط كله يصبح في طريقه إلى التغيير. فلعله يصير من قبيل التعميم المخل للواقع البائس تجاهل أنه في الوقت الذي سقط فيه عدد من الدول العربية في هوة الفوضى والتطرف والإرهاب والحرب الأهلية، فإن عدداً كبيراً من الدول صمدت في وجه العاصفة، وبخاصة دول الخليج العربية، وظل «الربيع» بعيداً عنها. في دول عربية أخرى زارها ذات «الربيع» مثل الأردن والمغرب والجزائر، لكنها نجحت في التعامل معه، وخرجت الدولة منه مرفوعة الرأس وأكثر منعة. وفي مصر، فإن نتيجة «الربيع» المرعبة متمثلة في تولي الإخوان الحكم انتهت إلى سقوط حكمهم خلال عام واحد من توليهم، وهو ما لم يحدث في دول أخرى أصيبت بوباء الفاشية المذهبية أو الدينية، واستمرت لعقود طويلة تحكم في ألمانيا وإيران. وفي العراق، دارت المعركة الكبرى وسقطت الموصل وأجزاء كبيرة من الأرض لدولة الخلافة المزعومة، لكنها هذه هزمت، وانكسرت، ولم تتحرر الموصل وحدها، وإنما تحررت الدولة العراقية كلها، ونجحت في وقف عملية الانفصال الكردي دون كسر اللحمة بين العرب والأكراد.
بالطبع، لا تزال الأوضاع سيئة في سوريا وليبيا واليمن، لكن في هذه كلها فإن الإرهاب لم ينجح، وفشلت إيران في اليمن، حيث حرر التحالف العربي أجزاء واسعة من البلاد من سيطرة الحوثيين. لكن ما لا يقل أهمية عن كل ذلك، فهو أن هناك موجتين كبيرتين من التغيرات الجوهرية الجارية في المنطقة والتي لا يمكن تجاهلها حتى ولو كان نصيبها من الاهتمام الدولي لا يزال محدوداً. الموجة الأولى تدور حول «الإصلاح» بمفهوميه الاجتماعي والاقتصادي، حيث تقوم المصالحة التاريخية بين المذاهب والطوائف؛ وتجري عملية الإصلاح الاقتصادية وفق المعايير والقواعد العالمية، وتكون محاربة الفساد جزءاً رئيسياً من العملية كلها. وباستثناء قطر التي لا تزال تظن أن النوم في حضن الإرهاب الديني وكلٍ من إيران وتركيا سوف يعطيها المنعة ويعفيها من الإصلاح؛ فإن بقية دول مجلس التعاون الخمس تعيش الآن في عملية إصلاح عميقة لم يكن أحد يتصورها خلال العقود السابقة. درة التاج في هذه العملية كلها، وربما أكثرها جرأة، هي عملية الإصلاح الجارية في السعودية التي مست أوضاعاً لم يكن يظن أحد أنه يمكن المساس بها تتعلق بالمرأة والمذاهب والأوضاع الاقتصادية كلها. باختصار جرى استعادة الإسلام إلى أصوله الأولى الرحبة والمتسامحة. ومصر هي الأخرى التي عصف بها الربيع المزعوم، وفقدت ثلاث سنوات من عمر تقدمها، عادت مرة أخرى لكي تستقيم في خريطة للطريق، ومن بعدها عملية إصلاح عميقة تواجه المشكلات والعقبات بحلول جذرية لا تغالب ولا تكابر ما ذهبت إليه الأمم المتقدمة. وفي العام المالي الحالي 2017 – 2018، فإن مصر تجاوزت معدل النمو 5 في المائة، ورغم زيادة سكانية قدرها 11 مليون نسمة (قدر عدد سكان اليونان) منذ بداية العقد، وبرنامج صعب للإصلاح الاقتصادي يتابعه صندوق النقد الدولي، فإن كافة المؤشرات الاقتصادية الكلية تشير إلى أن مصر تسير في الطريق الصحيحة.
بقية الدول العربية الأخرى قطعت خطوات مماثلة، وعرفت كيف تتعامل مع مشكلات التطرف والإرهاب، وبشكل ما فإن الدول العربية أقامت معادلة مؤداها أن تسير في التنمية كما لو أنه لا يوجد إرهاب، وتحارب الإرهابيين كما لو أنها لا تقوم بالتنمية. وربما كان الجديد في الموجة الثانية من الإصلاح هو خلق الفرص التي بدأت في الظهور في أعقاب عمليات ترسيم الحدود البحرية التي أجرتها مصر والسعودية، ومصر مع قبرص، وكلتاهما فتحت أبواباً واسعة للتنمية الإقليمية فبات البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط مفتوحين لعمليات التنمية المشتركة، سواء كان من خلال بناء المدن العابرة للحدود والخلجان (مدينة نيوم)، أو من خلال الربط الكهربائي الذي يجري بين مصر والسعودية، ومصر والأردن، ومعهما عمليات الربط بين أفريقيا وأوروبا من خلال مصر وقبرص واليونان. عمليات الإصلاح هذه سمحت بإعادة اكتشاف كل بلد عربي لنفسه، وقدراته البشرية والمادية، وكانت المفاجأة أن العالم العربي ليس نفطاً وغازاً فقط، وإنما الثروة فيه متعددة الأنواع والقدرات والطاقات. عمليات الإصلاح الجارية في دول عربية كثيرة في مجموعها تجعل عناصر القوة في الإقليم العربي أكثر فاعلية، وأعظم قدرة على التأثير، وبخاصة أن المجموعة الرباعية المكونة من مصر والسعودية ودولة الإمارات والبحرين ومعهم الأردن والمغرب تكوّن تآلفاً سياسياً وعسكرياً يجعل الشرق الأوسط أكثر توازناً مما كان عليه منذ بداية العقد الراهن.
ليس معنى ذلك أن كل الأمور على ما يرام، فمسيرة الإصلاح لا تزال طويلة، لكنها مبشّرة، ومع كل تقدم يحدث في دولة عربية فإن العالم العربي سوف يكون قادراً على إدهاش الآخرين مهما كانت صورته لديهم.