سميرة المسالمة

في مشهد هو الأكثر تعبيراً عن هزيمة الإنسانية وأخلاقيات الأمم الوضعية، في العصر الحديث، كانت صور آلاف المدنيين من أهالي الغوطة وهم يحملون جراحهم، ويرتحلون إلى قاتلهم، كملجأ أخير لإيداع أطفالهم – أو بعض أطفالهم- ممن بقي منهم على قيد الحياة «وديعة» لديه، تذكّر المستقبل بواحدة من فظائع جرائم المدنية الحديثة وابتكاراتها. ها هو «النصر»، مدن ثكلى، مدمرة، خاوية من أهاليها، خرائب من حجارة تحت كل منها حكاية لأم مفجوعة، وطفلة تصرخ بلا صوت، الدماء تحيط بالمحتفي بنصره، وتكلله بقوس من جثث أطفال الغوطة، على منصة من دمار.

إذاً الغوطة اليوم تضع خواتيم حكاية «النصر»، النصر الذي لا يعرف مضامينه عسكر القتل، ولا يدرك معناه إلا من يفهم ما بين سطور «البقج المصرورة» بأيدي المرحّلين عن ديارهم، وأولئك الأطفال الذين يلتقون بأشعة الشمس لأول مرة بعد طول إقامة في أقبية، هرباً من وحشية «منقذهم»، وغدر جنود الجيش «المحرّر» لمدنهم، إنها مفارقة المفاهيم عن معانيها، ما بين النصر والهزيمة، وصمت الأفواه المحشوة بفوهات بنادق المرتزقة، وعلى هذه المشاهد تعالوا نحتفِ بالنصر ونشارك «الموهومين» باحتفالاتهم، ونتقاسم معهم خيباتنا الإنسانية، لقد انتصرت قوات الأسد وميليشيات إيران وقوات الجو الروسية على 400 ألف سوري أعزل، قتلت منهم خلال أربعة أسابيع ما يزيد عن ألف بمئات من القتلى، وما يقرب من خمسة آلاف جريح، ناهيك عن تدمير البنى التحتية بنسب تفوق 70 في المئة، وأخيراً تهجير نحو خمسين ألف مدني (قابلة للزيادة) من مناطقهم ومنازلهم.

هذا هو «النصر» الذي سبقه «نصر» مماثل لجيش النظام وداعميه في حمص وتدمر وحماة وبعض من إدلب، وهو يتناغم مع «نصر» الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عفرين، الذي تم بالتوقيت ذاته مع نصر الأسد في الغوطة في 18 آذار (مارس) 2018، مكللاً بمباركة فصائل ومؤسسات سياسية محسوبة على الثورة، حيث يرفع كل «منتصر» علمه إلى جانب علم من اختاره من الدول، ليبارك ذلك الانتصار الممزوج بدم السوريين الأبرياء، ودموع المهجرين من بلداتهم وقراهم تحت اسم «التحرير»، حيث حررت كل من الغوطة وعفرين، في الوقت ذاته، من أهلها، أطفالاً ونساء وشيوخاً، فيرفرف العلم السوري الأحمر إلى جانب العلمين الروسي والإيراني في الغوطة، بينما ترتفع أعلام تركيا في سماء عفرين مهللة للفاتحين مع علم المعارضة السورية «الأخضر»، هو «التحرير» بطعم الاحتلال البديل، المرير، الذي يصبح موغلاً في ظلمه وعنجهيته واستبداده، بحيث تصبح البدائل تساوي بعضها بعضاً، لا فضل لمحتل على آخر إلا بقدر سماحه للضحايا بالموت الأسهل.

وبينما يحتفل محور (روسيا إيران تركيا) بانتصار حلولهم العسكرية على الأرض، وإعادة رسم خارطة النفوذ الدولية على سورية، وفقاً لاتفاقهم الثلاثي المشترك المعقود في آستانة، إثر عملية استرجاع النظام السوري لحلب أواخر 2016، التي تمت بتوافقات روسية- تركية- إيرانية، خرجت بموجبها حلب من حيز أوراق القوة لدى المعارضة السورية، لتكون نقطة التحول في مسار العمل المسلح، من مواجهة النظام إلى مفاوضته، عبر مسار آستانة الذي ابتكرته روسيا لقطع الطريق على مسار جنيف، وترتيب أوراق التفاوض استناداً إلى متغيرات الواقع الميداني الذي أتاحت له المعارك الأخيرة وضع خطوط التماس الملائمة للشركاء الثلاثة التي أصبح النظام السوري عاملاً مشتركاً بينهم سواء أعلنوا ذلك أم أخفوه.

على ما تقدم فإن السوريين مدعوون للمشاركة بالنصرين من دون تمييز، على رغم اختلاف الرايات المرفوعة، فمن يقبل بما اتفقت عليه «آستانة» في عفرين، لن يستطيع رفض ما اتفقت عليه «آستانة» وماهو في سياقها من اتفاقات مع مسلحي المعارضة، سواء جيش الإسلام أو فيلق الرحمن في الغوطة، وما يعنيه ذلك من تسليم -وليس فقط- استسلام، للحل الروسي في سورية، متجاهلين تضحيات السوريين لسبع سنوات من عمر احتجاجهم وثورتهم وتمردهم وصراعهم ضد النظام ومن هم إلى جانبه.

ويبقى تعويل المعارضة على التدخل الأميركي لإنهاء حكم الأسد وتسليمهم السلطة، ضمن ما يمكن وصفه بالتحليق خارج الواقع، وبعيداً عن واقعية الصراع الذي تديره قوى كبرى، بطريقة مباشرة كروسيا، أو غير مباشرة كالولايات المتحدة الأميركية، لكل منهما اصطفافات تقف خلفه وفي مواجهته، وفقاً للمصالح الدولية المتضاربة حيناً، والمتقاطعة أحياناً في ما بينهم، ولكنهم جميعاً وعلى اختلاف تموضعهم من الصراع في سورية وعليها، على ذات المواجهة مع المصلحة السورية في إقامة الدولة الديموقراطية وسيادة الأمان والاطمئنان داخل البلاد وعلى حدودها.

وتعمل المصالح المتضاربة بين إيران وتركيا من جهة، وبين إيران والولايات المتحدة ومعها الغرب، من جهة ثانية، على تقارب المصلحة التركية الأميركية، في حين نفس التناقضات الأميركية التركية المتعلقة بالكرد السوريين، تساعد على التقارب الإيراني التركي من خلال اتفاق آستانة الذي ترعاه روسيا، كما تساهم الخلافات الروسية الأميركية في تقريب موسكو من طهران وأنقرة، بهدف إعادة ترتيب العلاقات مع الإدارة الأميركية ضمن تطلعات هذه الإدارة في إبعاد شبح إيران من المنطقة العربية، ما يعني أن حركة التقلبات في تموضع أطراف الصراع لا تزال مفتوحة على خيارات أكثر تعقيداً، على رغم «الانتصارات الوهمية» التي تحتفي بدمار سورية وتشريد السكان من مناطقهم، وإبراز خطوط التقسيم في شكل أكثر وضوحاً على خريطة العمليات العسكرية التي يديرها شركاء آستانة في مواجهة المجتمع الدولي وقراراته الأممية، التي أصبحت عاجزة حتى على فرض نفسها إعلامياً.

وبينما ينتصر الأسد على معارضيه في الغوطة، تنتصر المعارضة على نفسها في عفرين، وتزيد من خطوط تقسيم النفوذ الدولية المبنية على المصالح الجغرافية والاقتصادية والعسكرية بالتقسيم القومي العربي- الكردي، الذي تجنبه السوريون بشعارات ثورتهم عندما أربكوا النظام بهتافات من نوع «واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد»، وعندما اختتم الأهالي مظاهراتهم بمناسبة العام السابع على ثورتهم بشعار مؤلم وساخر «ما عاد بدنا حرية بدنا الوحدة الوطنية»، لمواجهة حملات التهجير القسري، التي تقوم بها قوات النظام في الغوطة برعاية إيران، بينما تقوم بها تركيا في عفرين، بغطاء الفصائل المسلحة المحسوبة على المعارضة، سواء قصدت بحربها تهجير الكرد، أم هدفت إلى ردع حلمهم الانفصالي كما تدّعي.

وبين الانتصارين، ما على الشعب إلا أن يحدد خياراته إلى أي منهما سيميل؟ حيث لا قاسم يجمعهما إلا الضحايا السوريين، الذين دفعوا ثمن هذا الانتصار من أرواح أولادهم، وخراب مدنهم، وخيبة أملهم وآمالهم من المعارضة وبها، ومن «أصدقاء الشعب السوري» والمجتمع الدولي، ومن المراهنين عليهم من «قيادات المعارضة» حتى اليوم، الذين يخاطبون المحاصرين من خلف نظارة سوداء مطالبين بصمودهم تحت القصف والمدافع والغازات السامة، بينما لا تكف قيادات المعارضة عن تقديم التنازل تلو الآخر، وهم في بلاد الاغتراب والأمان والقرار، هذه هي المفارقة التي تجعلنا نسأل: أي من «الانتصارين»في الغوطة أم عفرين، أكثر ضرراً على مستقبل سورية ووحدتها شعباً وأرضاً؟


* كاتبة سورية