حسن حنفي

كما يعلم الكل، فإن الإسلام عبادات ومعاملات، بل إن جوهر الدين هو المعاملات تحديداً. ولا نريد العودة هنا إلى نقطة الصفر فنستشهد بعشرات الآيات والأحاديث على أن المعاملات هي جوهر العبادات، وكأننا في مسجد نعظ الناس، نخطب فيمن دخلوا الإسلام للتو واللحظة، ولا يعلمون عنه شيئاً. فإذا اقتصر الدين على العبادات فلن يتم التطرق لمشاكل الواقع وأزماته، وهي الوظيفة الأساسية لخطبة الجمعة، وبالتالي سيكون ذلك هروباً من الواقع وإقصاءً له، أي تركيزاً على ما يعرفه الناس، مثل الصلوات الخمس، وتركاً لما لا يعرفونه، أي واجباتهم وحقوقهم في المجتمع. والعبادات في ظاهرها بعيدة عن السياسة، لكنها في الجوهر ذات بُعد سياسي واجتماعي واقتصادي.

إذا اقتصر الإسلام على العبادات فإنه يتحول إلى مسيحية روحانية خالصة، وإذا اقتصر على المعاملات فإنه يصبح يهودية تشريعية شكلية. والإسلام وسط بين الاثنين؛ فهو قول وعمل، واقتناع بالقلب تصدِّقه الجوارح، ‬أي أن العمل فيه ‬هو ‬جوهر ‬الإيمان. «وَإِنْ ‬عَاقَبْتُمْ ‬فَعَاقِبُوا ‬بِمِثْلِ ‬مَا ‬عُوقِبْتُمْ ‬بِهِ ‬وَلَئِنْ ‬صَبَرْتُمْ ‬لَهُوَ ‬خَيْرٌ ‬لِلصَّابِرِينَ». ‬وقد ‬روي ‬أن ‬الدين ‬المعاملة. ‬والتصديق ‬أو ‬التكذيب ‬بالدين ‬طبقاً ‬للمعاملات: «أَرَأَيْتَ ‬الَّذِي ‬يُكَذِّبُ ‬بِالدِّينِ. ‬فَذَلِكَ ‬الَّذِي ‬يَدُعُّ ‬الْيَتِيمَ. ‬وَلا ‬يَحُضُّ ‬عَلَى ‬طَعَامِ ‬الْمِسْكِينِ». ‬فالتصديق ‬بالدين ‬هو ‬إطعام ‬اليتيم ‬والمسكين. ‬وينتقد ‬القرآن ‬الكريم ‬مَن ‬يقول ‬ما ‬لا ‬يفعل، ‬ومن ‬يتكلم ‬بلسانه ‬ولا ‬يفعل ‬بيديه: ‬«يَا ‬أَيُّهَا ‬الَّذِينَ ‬آمَنُوا ‬لِمَ ‬تَقُولُونَ ‬مَا ‬لا ‬تَفْعَلُونَ. ‬كَبُرَ ‬مَقْتًا ‬عِنْدَ ‬اللَّهِ ‬أَنْ ‬تَقُولُوا ‬مَا ‬لا ‬تَفْعَلُونَ». ‬وفي ‬كل ‬مرة ‬يُذكر ‬الإيمان ‬في ‬القرآن ‬الكريم ‬يتلوه ‬العمل ‬الصالح: ‬«إِنَّ ‬الَّذِينَ ‬آمَنُوا ‬وَعَمِلُوا ‬الصَّالِحَاتِ». ‬فالعمل ‬هو ‬جوهر ‬الإيمان. ‬وعندما ‬رأى ‬الرسول ‬شخصاً ‬قائماً ‬بالمسجد ‬يتعبد ‬ليل ‬نهار، ‬سأل: ‬مَن ‬يطعمه؟ ‬قالوا: ‬أخوه. ‬قال: ‬أخوه ‬أعبد ‬منه.

إن الإيمان ‬والكفر ‬ليسا ‬باللسان ‬ولكن ‬بالعمل، لذلك فالخطاب الديني المرجو هو الخطاب الذي يتعرض لمصالح المسلمين في مجتمعاتهم وأوطانهم، هو الخطاب الذي يواجه الفوضى ويستنهض الهمم للقضاء على التخلف حتى لا تصنف الأمة الإسلامية مع الشعوب المتخلفة، هو المحافظة على وحدة الأمة ضد محاولات تفتيتها وتجزئتها.. فوحدة الأمة انعكاس لوحدة الله تعالى في ملكوته.

إن العبادات في جوهرها معاملات؛ والصلاة جماعة لإذكاء روح الترابط والتواصل بين المسلمين، والصيام إحساس بجوع الفقراء والمساكين، وليس للتبذير عند الإفطار والاستمتاع بكل ما لذ وطاب، والزكاة مشاركة في الأموال بين الناس، بين الغني والفقير، والحج تجمع سنوي للمسلمين من مختلف أصقاع العالم.. ‬بل ‬إن ‬التوحيد ‬نفسه، ‬والذي ‬يبدو قولا لفظياً ‬باللسان فحسب، ‬هو ‬عمل ونشاط فعلي. ‬فالله ‬واحد، ‬والوجود ‬الإنساني ‬واحد، ‬والمجتمع ‬واحد، ‬والأمة ‬واحدة، ‬والبشرية ‬واحدة.

إن العبادة قد تكون شكلية أو نفاقاً لدى البعض، لكن العمل لا يضيع: ‏«فَمَنْ ‬يَعْمَلْ ‬مِثْقَالَ ‬ذَرَّةٍ ‬خَيْراً ‬يَرَهُ. ‬وَمَنْ ‬يَعْمَلْ ‬مِثْقَالَ ‬ذَرَّةٍ ‬شَرّاًً ‬يَرَهُ». ‬وقد ‬رُوي ‬عن ‬الرسول: ‬ائتوني ‬بأعمالكم ‬ولا ‬تأتوني ‬بأنسابكم.

العبادة هي العمل والإنتاج، والعبادة بلا عمل قد تكون مجرد نفاق، ظاهر للإيمان وليس جوهره. العمل هو روح الإيمان وليس العبادة. قد تكون العبادة شكلا، كما يقول الصوفية، وكما قد يكون الحال عند الفقهاء.

وقد ركز معظم فلاسفة الغرب على العمل. فهو السؤال الثاني: ماذا يجب عليَّ أن أفعل؟ في «نقد العقل العملي» بعد السؤال الأول: ماذا يجب علي أن أعرف؟ في «نقد العقل النظري» عند إيمانويل كانط. كما ركز عليه كارل ماركس في قوله الشهير: «ليس علينا أن نفهم العالم بل علينا أن نغيره». ويجعل «بلوندل» العمل هو المظهر الوحيد للألوهية في الإنسان. و«مونييه»، مؤسس مذهب «الشخصانية»، جعل العمل هو البعد الرئيسي في بناء الشخصية.