سمير عطا الله

 ... ما زال يضحك. يحكي ويضحك. يروي ويضحك. لم أره منذ فترة طويلة. كلانا يسافر دائماً في اتجاه مختلف. عندما يكون في الصين، أكون في نيويورك. وعندما أكون في باريس يكون في سنغافورة. هو عمله قطع غيار الطائرات، وتجارة القمح والبترول الصخري في كندا، وتفقُّد أصدقائه من رؤساء أفريقيا. وأنا أطلب منه أن يعطيني ولو مرة واحدة «تعليمة» عن سهم رابح أو سهم له مستقبل. فيضحك: «وماذا أفعل إذا خسرت؟».

غالباً ما يرسل إليّ الأجوبة شعراً، طقطوقة تسخر منه ومني ومن النفط الصخري. منذ عرفته وهو ينظم الشعر الضاحك. شعر موزون مقفى، ولكن لمجالس الندامى، لا للحفظ ولا للنشر. وكنت أنصحه دائماً بألّا يضيع هذه الموهبة في نظم الطقاطيق وهجاء أصحابه وهجاء المطربات، وكان يصر على أنه سيبقى شاعراً سرياً متخصصاً في المقالب وبارعاً في طق الحنك. أما المال، فسوف يأتيه من التنك أو من صفقة بطاطا مع بلجيكا، أو صفقة قمح مع هنغاريا.
لم أطرح عليه مرة سؤالاً حول عمله، لكن عندما نلتقي يحرص، بطيبة ضاحكة لا بخبث أو شماتة، على أن يحدثني عن آخر العقود التي وقعها: باخرة قادمة من البرازيل، موسم الحمضيات في فلوريدا، عقود قصدير آجلة لحساب السويد. ثم يضحك، ثم يضحك: ماذا لو سمعت منك وانصرفت إلى الشعر؟
أخيراً اتصلت به سائلاً أين أنت؟ أجاب «أنا في جنوب أفريقيا أشتري باخرة للكسر». أي لكي يبيعها حديداً وتنكاً. وشرح ذلك بطقطوقة شعرية. وأصرّ على أن نلتقي عندما يعود. وفي اللقاء جمع جميع الرفاق الذين مرّ على تعارفهم أكثر من نصف قرن.
نصف الحاضرين كان من بائعي الكلام في السياسة، والنصف الآخر في الأدب. وكان أرقَّنا حالاً شاعر ينظم الشعر البديع، لا الطقاطيق الضاحكة. وأخذنا جميعاً نستعيد الذكريات. ونعدد أنواع الأدوية التي نتناولها. ونضحك من حكايات الحب الأول. وبعضنا لم يتعده إلى الحب الثاني، فتزوج وكان الأخير أيضاً.
وسألته عن زوجته الثانية التي أعرفها فضحك عالياً. لقد تزوج من بعدها مرتين. والثالثة على الطريق. تعرف إليها في جنوب أفريقيا حيث يشتري البواخر للكسر. أي لبيعها حديداً وتنكاً. وضحك عالياً. وتأمل وجوهنا البائسة... وفقع من الضحك.