FINANCIAL TIMES

 رنا فوروهار من نيويورك

جوستن ترودو، رئيس وزراء كندا، أتى بجملة رائعة في خطاب كان قد ألقاه في دافوس: "لم يحدث قط أن كانت وتيرة التغيير بمثل هذه السرعة من قبل، ومع ذلك لن تكون بمثل هذا التباطؤ مرة أخرى أبدا".
بالنسبة لي، كانت تلك هي الرسالة الرئيسة من المنتدى الاقتصادي العالمي. العناوين الرئيسة ربما كانت تتحدث عن خطاب الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، بعنوان "أمريكا أولا"، لكن القصة الخلفية كانت هشاشة الدول القومية في وقت يتسم بالتغير التكنولوجي.
كان موضوع "الاقتصاد والمجتمع الرقمي" هو الموضوع الأكثر شعبية في المنتدى الاقتصادي العالمي هذا العام - ولا عجب في ذلك. أما السر القذر لدافوس فهو أن "الثورة الصناعية الرابعة" التي أشيد بها بشكل كبير جدا - اختصار لظهور التشغيل الآلي المنتشر في كل مكان، والبيانات الكبرى، والذكاء الاصطناعي - تعمل على جعل معظم الناس أقل أمنا، وليس أكثر، على الأقل في المدى القصير.
قدرة مجموعة من الشركات - في مجال التأمين والرعاية الصحية وتجارة التجزئة والسلع الاستهلاكية - على إضفاء الطابع الشخصي على كل نوع تقريبا من المنتجات والخدمات، استنادا إلى تيارات البيانات، ليست مجرد تحول في نماذج الأعمال. بل هي تحد أساسي في وجه الديمقراطية الليبرالية.
لنأخذ في الحسبان التغيرات التي يجري العمل عليها في أعمال التأمين. على مدى 200 عام، كانت هذه الصناعة تستند إلى فكرة تجميع المخاطر: إيجاد متوسط تكلفة التأمين على المنازل والسيارات وحياة الأفراد، ومن ثم تقسيم التكلفة على المجموع. في عصر البيانات، ستكون مجموعات التأمين قادرة على أخذ المعلومات من خلال تعقب الصناديق في سياراتنا، أو أجهزة الاستشعار الموجودة في منازلنا، واستخدامها لإصدار بوالص ذات طابع شخصي فائق.
مثلا، ربما تُكافأ لإضافتك نظام سباكة جديد في منزلك القديم (ستتمكن أجهزة الاستشعار من قياس مدى كفاءة هذا النظام)، أو التوقف بسرعة أكبر عند الإشارة الحمراء. لكنك قد تتعرض للوم أيضا عندما يدخن ابنك البالغ من العمر 16 عاما الحشيش في غرفة نومه (أجهزة كشف الدخان ستنقل الرسالة إلى شركة التأمين الخاصة بك في الوقت الحقيقي) أو إذا فشلت في إزاحة أكوام الثلج المتراكمة على مدخل منزلك، لأنها تجمدت (في هذه الحالة يمكن أن تعلم شركات التأمين بالضبط متى فعلت ذلك، أو إن كنت فعلته أصلا، والحد من مخاطر مسؤوليتها فيما لو تزحلق أحد المارة).
بالطبع، ستكون قادرا على الاشتراك في هذا أو عدم الاشتراك، رغم أنك لن تتمكن من أن تفعل ذلك بشفافية كبيرة أو بتكلفة رخيصة (خذ في الحسبان أنه عبر المنصات التجارية مثل فيسبوك أو جوجل، يتعين عليك أساسا التنازل عن حقوقك المتمثلة في استخدام المنتج أو الخدمة بسهولة). لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال أن تكون هناك الآن فئة دنيا غير قابلة للتأمين. من سيؤمن عليهم؟ الأكثر احتمالا هي جهات الإقراض لضعاف الملاءة، أو الدولة.
هذا يكشف سرا قذرا آخر من أسرار العصر الرقمي. وتماما مثلما درجت الحكومة الأمريكية منذ سنوات على دعم شركات التجزئة ذات التكلفة المنخفضة التي لا تدفع لعمالها أجورا كافية لتدبير أمور معيشتهم، ربما سيُطلَب من الحكومة توفير شبكة أمان لهذه الفئة الدنيا الرقمية الجديدة.
المشكلة هي أن القطاع العام ليست لديه القدرة على فعل ذلك. فهو يحتاج إلى التأقلم مع ديون تبلغ تريليونات الدولارات نشأت منذ الأزمة المالية، ناهيك عن السياسة الأكثر حزبية التي تجعل من الصعب التوصل إلى توافق في الآراء حول كثير من الأمور. في الوقت الذي يزداد فيه التباين الرقمي، من المحتمل جدا أن تزداد أيضا خيبة الأمل في الدولة، ما يؤجج الدائرة المفزعة من خيبة الأمل السياسية والاقتصادات المختلة وظيفيا.
ثمة خطر آخر هو أنه بدلا من المطالبة بالمزيد، ليس فقط من الحكومات، بل من الشركات التي تستفيد ماليا من البيانات، سيبقى المواطنون في حالة من السلبية.
هذا موضوع تطرق إليه الخبير المالي، جورج سوروس، في خطابه في دافوس، حين لاحظ أن شركات التكنولوجيا "تحفز الناس على التخلي عن استقلاليتهم، وهذا يتطلب بذل جهود حقيقية للتأكيد والدفاع عما سماه جون ستيوارت ميل ’حرية العقل‘. هناك احتمال أنه بمجرد فقدان ذلك، سيواجه الأشخاص الذين ينشأون في العصر الرقمي صعوبة في استعادة تلك الحرية".
وتطرق سوروس إلى مخاطر "التحالفات بين الدول الاستبدادية وشركات الاحتكار الكبيرة الغنية بالبيانات والمتخصصة في مجال تكنولوجيا المعلومات التي قد تتسبب معا في خلق أنظمة ناشئة من المراقبة، من قبل الشركات، مع نظام متطور أصلا للمراقبة برعاية الدولة".

هذا يبدو أشبه بدولة المخابرات، لكن هذا هو الوضع في الصين، حيث يوجد تقارب وثيق بين شركات التكنولوجيا الكبرى في البلاد والحكومة. في الواقع، أعرب بعض علماء العصر الرقمي الذين تحدثت إليهم في دافوس عن الغيرة من السهولة التي تُجمع بها البيانات حتى في الوقت الذي أعربوا فيه عن مدى قلقهم بشأن الآثار السياسية المترتبة على ذلك. 
هذا هو السبب في أن أكثر اللحظات المتفائلة التي شهدتُها في دافوس كانت مع إيلاه نور بخش، وهو أستاذ في معهد دراسات الروبوت التابع لجامعة كارنيجي ميلون، الذي شعر بقلق شديد حول النقاط التي أثرتها للتو، الأمر الذي حمله على إطلاق مشروع لتثقيف طلاب المدارس الابتدائية حول قوة البيانات، ومخاطرها، ومكافآتها، وطريقة استخدامها للدفاع عن أنفسهم.
من خلال هذا البرنامج يستطيع الطلاب، مثلا، متابعة عدد السيارات الواقفة حول مدرستهم حين تكون محركاتها دائرة، وحساب الكمية المحتملة من التلوث المتولد عن ذلك، ثم المطالبة بعقد اجتماع للعائلات لمناقشة كيفية "تحدي هياكل السلطة القائمة"، كما يقول البروفيسور نور بخش (بمعنى الضغط على مدير المدرسة لوضع قواعد جديدة لإيقاف السيارات في الموقف). 
الفكرة هي إنشاء جيل جديد من العلماء المواطنين الذين يفهمون قوة البيانات. أتوقع أنهم إذا فهموا ذلك على الوجه الصحيح، فإنهم سيبدأون بالمطالبة بقدر من الملكية والسيطرة على البيانات بأنفسهم أكثر بكثير من قبل.