سعودة من الجانب الآخر

طلال الجديبي

 

استغرب بعض المهتمين مما ظهر لهم كتناقض واضح بين التشديد في متطلبات التوطين وبين محاولة جذب الاستثمارات والكفاءات الأجنبية في بعض المجالات. وهذا استغراب في محله وللمستهدف ـــ أي الباحث عن عمل ـــ مسألة مهمة جدا تستحق التوقف والانتباه. لماذا؟ لأن هذه التغييرات تشكل جزءا جوهريا من ديناميكية سوق العمل وفهمها متطلب أساسي للتخطيط المهني. لا نستطيع أن نقول إن هذا التناقض غير حقيقي بالمرة، ولا نقول كذلك إن هناك تعارضات دائمة ومستحيلة الحل في التوفيق بين الأهداف التنموية التي تبحث عن القضاء على البطالة العالية وفي الوقت نفسه تؤكد استقطاب رؤوس الأموال والعقول والمهارات. هناك بكل تأكيد حلول ينبغى سبرها عند ثلاث فئات مؤثرة ومتأثرة: الجهات التشريعية والتنظيمية، ورعاة المجالات المهنية ذات العلاقة، والباحثين عن عمل، والتركيز هنا على الفئة الأخيرة. منذ أن بدأ مفهوم السعودة في الانتشار كحل تنموي مهم وحتى أحدث متطلبات التوطين المستمرة، استمرت فرص المُقدمين على الحياة العملية متأثرة بعاملين مهمين. الأول عامل "دفع" حاضر بمتطلبات التوطين النظامية التي يفترض أن تصنع للشاب فرصا حقيقية لم تكن متاحة له دون فرض هذه المتطلبات. الثاني عامل "جذب" بيد الشاب يستطيع من خلاله تحقيق نتائج التوطين نفسها، ولكن من خلال إعداده نفسه بشكل يقبل المنافسة بتفوق. ولأن التعميم مصيدة الأحكام فإن التفصيل في الأمر مهم. أعتقد أن هناك نوعا من المخاطر التوظيفية لن تتمكن خطط التوطين من تفكيكه ومجابهته. ويجب توضيح هذا الخطر حتى يتمكن الشاب من تجاوزه بنفسه. تدريجيا ستتمكن الجهات التنظيمية من فرض متطلبات التوطين بشكل فعال جدا على بعض القطاعات التي لا تتطلب قدرا عاليا من المهارة، وتدريجيا كذلك، ستصبح المنافسة شديدة جدا وسترتفع أسقف الحرية التوظيفية للوظائف القيادية والفنية، وربما تقل متطلبات التوطين هناك. صحيح هناك توجه ونشاط حقيقي لتوطين المهارات المتقدمة والقيادات ولكن في نهاية الأمر ستكون الكفاءة والقدرة على صنع الفارق هي العنصر الأساس في قرار التوظيف. فمن غير المعقول أن تحدد أهداف ربحية مثلا على كيان معين ثم تمنعه من استخدام الموارد اللازمة لتحقيق هذه الربحية. الرهان في نهاية الأمر يكمن في صنع مخزون وافر من الكفاءات الوطنية المتقدمة التي تسد هذه الفراغات ـــ وهذا يحصل اليوم ولكنه في حاجة إلى مزيد من الوقت ـــ وإن لم ينجح هذا الرهان سنشهد التوطين يزدهر على مستوى ويختفي تماما في مستويات أخرى. هذا يعيدنا إلى موضوع شيق وهو سعودة المهارات مقابل سعودة الوظائف. على الرغم من أن استراتيجيات وبرامج التوطين دائما ما تراعي جانب تطوير الكفاءات كمتطلب أساس لنجاح هذه البرامج إلا أن التوقف عندها من وجهة نظر الشاب مختلف عن تقييم برامج تعمل على المستوى الوطني. باختصار، التخطيط الوظيفي الشخصي يجب أن يعمل اليوم بمعيار عالمي. التخطيط الشخصي للقفزات المهنية خلال العشر أو الـ 20 عاما المقبلة لا يمكن أن يقوم بكل بساطة على ماض أو واقع محلي يخوض كثيرا من التحديات وسيحظى بمزيد من إعادة التشكل خلال فترة مقبلة. كل شاب طموح ينبغي أن يتأكد من أنه لو كان في السابق منافسا ضعيفا لوافد متواضع التأهيل في سوق لا تقبل بوجوده، فإنه يجب أن يستعد ليكون منافسا قويا لوافد متميز في سوق تبحث عنه ولكن لن تمنحه الأفضلية لأي سبب آخر. نعم، ستكون الفرص العادية سهلة لمن يبحث عن العادي، ولكن الفرص المميزة ستكون بكل تأكيد بمعيار مميز. بكل وضوح، محاولة صنع بيئة تنافسية مغرية للشركات العالمية ستعكس المعايير نفسها على الكفاءات المستهدفة هذه البيئة. وهذا يعني التنافسية الشخصية بمعايير عالمية في كل من: مستوى الإنتاجية، أسلوب التفكير، المهارات الفنية، المهارات الشخصية، المظهر وبقية خصائص الكفاءة المتميزة. يجب أن تستمر برامج التوطين حماية لبعض الفئات وتعزيزا لبرامج التنمية المختلفة، ولكن يجب أن نبتعد عن الخلط بين توقعاتنا من التوطين وبين مبادرات استقطاب المهارات والعقول. الخطير في الأمر، أن هذه النقاشات أو التصورات قد تشكل تأسيسا لمبررات شاب أو فتاة وسببا لتقاعسهما عن التخطيط المهني الجيد واستعدادهما لمستقبل مختلف ولكن مشرق ـــ بإذن الله.