محمد آل عباس 

لم يكن ما يعرف اليوم "بفضيحة فيسبوك" مجرد حدث عابر، ولن تكون كذلك أبدا. فالمسألة مركبة والادعاءات التي فيها غير مقبولة علميا حتى الآن على الأقل، وإذا كنا -بسبب هذه القضية الشائكة- نختبر اليوم كل ما تعلمناه عن قدرة الإنسان وتفاعله مع الآلة، فإن كل ما عرفناه عن سلوك الإنسان والآلة أصبح محل شك، إذ كيف يشكل الإنسان وعي الآلة، وكيف تعود هي لتشكيل وعيه ثم يعود لتشكيل وعيها؟ وهكذا في دائرة تبدو مفرغة.

وللمناقشة أعود هنا إلى "فضيحة فيسبوك" تلك السهلة الممتنعة، وهي تبدأ بمجرد استطلاع للرأي أجراه "فيسبوك" كأي استطلاع آخر نراه كل يوم على أجهزتنا، لكن استطلاع "فيسبوك" الكارثي ذاك كان بإدارة أستاذ جامعي روسي، وطرحت فيه أسئلة تتعلق بالشخصية وشارك نحو 270 مليون شخص مسجل في "فيسبوك" (وهذه النقطة مهمة جدا)، وذلك أنه وقبل الإجابة عن السؤال الأول وجب عليهم جميعا الموافقة على حق استخدام بياناتهم الشخصية من قبل معدي الاستطلاع ومنها أصدقاؤهم. ونظرا لأن الاستطلاع مصمم بطريقة تجعلك تستجيب، فقد تم الوصول إلى البيانات الشخصية لعدد مهول من المشاركين، أي أن حجم البيانات الذي توافر لدى هذا الأستاذ تجاوز 270 مليون شخص، إضافة إلى أصدقائهم وبيانات أخرى كثيرة وهائلة جدا، وإذا كان هؤلاء الأشخاص ممن يربط "فيسبوك" بالجوال ويسمح له بالوصول إلى البيانات فلك أن تتخيل حجم الاختراق،

الذي لا نشاهد منه حتى الآن سوى رأس جبل الثلج، خاصة أن كثيرا منا يربط "فيسبوك" بـ "تويتر" و"لنكد إن"، وغيرها من صفحات التواصل حتى بيانات الإنستجرام. هذه البيانات الضخمة جدا تم بيعها إلى شركة سميت "أناليتيكا الاستشارية". هذه الشركة "تدعي" (وسأعود مرة أخرى لكلمة تدعي هذه) أنها تستطيع التأثير في تفكير الناس من خلال تحفيز وإعادة بث المعلومات التي تريدها، وهي تستخدم في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي ومن خلال فهم العلاقات يمكن إقناع الناس أن أمرا ما هو حقيقة فعلا. فإذا قمت بإيجاد حدث ما في الواقع ومن ثم بثه على مواقع تواصل معينة "مرصودة جيدا"، سيتم تحويل هذا الحدث إلى ظاهرة إعلامية في فضاء التواصل الاجتماعي، بينما أنت تنعم بالاسترخاء تقوم الآلة بعملها، ذلك أن أدوات البحث مصممة، كي تفرز للناس الباحثين فيها تلك المعلومات (التي تعتقد الآلة بأنها) الأكثر احتمالا أنها الأكثر طلبا من جميع المستخدمين، فهي لعبة الاحتمالات التي يعتقد مصممو الآلات والبرامج الإلكترونية ومنها "تويتر" و"فيسبوك" و"جوجل" أنها محايدة وخارج سيطرة الإنسان، لأنه من غير المحتمل أن يتفق ملايين البشر على طلب معلومة ما إلا إذا كانت هذه المعلومة مطلوبة فعلا، ولا يمكن أن يتفق الناس على طلب معلومة ما بشكل كبير ما لم تكن حقيقية، لكن التلاعب بهذه الاحتمالات هي لعبة الإنسان نفسه.

هنا يتم التلاعب بالوعي. فالآلة التي كنا نظنها محايدة ومستقلة عن وعي الناس يظهر أنها فعلا خاضعة لهم بشكل لافت. وهكذا تبدأ الحلقات بالتوالي، فالآلة التي تم التلاعب بالاحتمالات فيها تقوم هي من جانبها بالتلاعب بالوعي العام، فالزائف يصبح حقيقة والحقيقة تختفي في غمرة الزيف. لقد ادعت الشركة "أناليتيكا الاستشارية"، أنها أثرت في الوعي العام من خلال إيجاد الحدث في الواقع، ومن ثم بثه من خلال وسائل التواصل، وبتحوله إلى بيانات ضخمة كان يتم تشكيل الوعي الإنساني مرة أخرى، فالبحث عن اسم معين سيظهر لك في وسائل التواصل فقط، ذلك الاسم المرتبط بذلك الحدث مهما كان كاذبا ويخفي كل المعلومات الأخرى مهما كانت أهميتها وصدقها، فوسائل التواصل التي تم التأثير عليها بسبب حجم البيانات التي تبثها أثر في وعي الآلة، مثل "جوجل" أو "فيسبوك" أو حتى "تويتر"، فلا يمكنك أن تتجاوز الحدث الذي تم بثه فيها، وبذلك يصبح هذا الحدث حقيقة أساسية، وإذا تبع ذلك الأمر سلسلة هائلة من التعليقات والتصورات والتوقعات يصبح الحدث في اللاوعي وقاعدة للتفكير في المستقبل ولا يمكن تجاوزه بسهولة.

هكذا تعاملت الشركة مع الانتخابات في كثير من الدول وأثرت -كما تدعي- في وعي الناخب ومن ذلك الانتخابات الأمريكية. لكني أقول إنه يجب علينا التعامل مع هذه الادعاءات بحذر شديد، فوصول ترمب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة شكل تحديا هائلا لكل الوعي الأمريكي ومن يؤمن به، ومنذ وصوله والجميع يكاد لا يصدق أنها الانتخابات والديمقراطية، فالرجل لم يكن قريبا حتى من أكثر الرؤساء الأمريكيين غرابة، لا في تصرفاته الشخصية ولا في قراراته الصادمة، ولعل آخرها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. فهناك من يريد أن يقول إن وصول هذا الرجل إلى الحكم كان مؤامرة في الأساس. ولكن هذه المؤامرة تقف أمام صخرة نزاهة الانتخابات الأمريكية المعهودة، وهنا جاءت نظريات مثل "أناليتيكا الاستشارية" وفضيحة "فيسبوك". لهذا أقول إن علينا أن ننتظر حتى تصبح الصورة واضحة قبل أن نجزم بشيء، لكن العالم اليوم أصبح موحشا، ولعلي أتمنى أن لي غنيمات في جبل.