صلاح سالم

 ثمة ظاهرة كبرى في الثقافة العربية المعاصرة تمكن ملاحظتها بالعين المجردة، ناهيك بالتأمل الذهني، تتمثل في تلك «المراجعات» التي أجراها مثقفون كبار ومفكرون نهضويون، خصوصاً في الجيل الثاني، أفضت الى تراجع بعضهم عن الأطروحات الداعية الى التجديد الجذري، والتصالح مع ما هو مألوف وسائد من أفكار وأطروحات، على منوال ما تمّ مثلاً من جانب طه حسين ومنصور فهمي ومحمد حسين هيكل وخالد محمد خالد وزكي نجيب محمود وغيرهم. غير أن عمق هذه التراجعات، أي درجة حدتها وأشكال الإفصاح عنها، إنما يختلف كثيراً بين كل مفكر وآخر، على نحو يرتبط ارتباطاً كبيراً بالدوافع التي قادت اليها، والتي تشي بمغزاها، وهل هي مجرد «مراجعات» منطقية ومن ثم مبررة بحكم العمر والتجربة الإنسانية، أم أنها «انقلابات» على الذات، تتسم بالنفعية والراديكالية، وهنا يمكننا التوقف عند أربعة دوافع رئيسية لتلك الظاهرة:

الدافـع الأول معرفي ويتعلق إجمالاً بالخبرات الفكرية التي تتراكم لدى المبدع، وتدفع به عبر مراحل عمره الممتده، وبتأثير خبرات تراكمية كبيرة، الى تعديل تدريجي بطيء وعميق في رؤاه ومواقفه إزاء القضايا الكبري نحو الاعتدال والتوازن، ما يعد دليلاً على نضجه النفسي والفكري. هنا تكون المراجعات الفكرية عميقة ومسؤولة، تجري بمهل وعلى نحو تراكمي في حياة الرائد الفكري، ربما دارت بينه وبين ذاته أولاً ثم بينه وبين محيطه الثقافي ثانياً، وهي في كل الأحوال طبيعية إن لم تكن مطلوبة فليس متصوراً أن يولد المفكر مكتملاً، أو يبقى قائماً على أفكاره الأولى بشكل مطلق عصياً على التطور. فإذا ما قبلنا هذا المبدأ يمكننا تصور أن يصبح المبدع أقل اندفاعاً بعد أن كان أكثر جموحاً، فيتبنى المواقف الأكثر تركيباً ونسبية مبتعداً بدرجة أو بأخرى من نقيضها الأكثر راديكالية وبساطة وإطلاقية. فالأخيرة غالباً ما تجد صداها لدي الأجيال الشابة بعكس الأولى التي تنعكس في الأجيال الأكبر، وهذه سنة كونية تتعلق بمدى القدرة على فهم الحقيقة باعتبارها انسانية وتاريخية، وهو فهم غالباً ما يمتلكه الإنسان بتوالي العمر وتعدد التجارب وتنوع الخبرات.

ومن ثم تكون هذه المراجعات معلماً على موضوعية ونزاهة المفكر الذي لا يمكننا أن نطالبه بكتمان ما يمور بداخله من تحولات أو إدارة ظهره لما يتراكم في وعيه من اكتشافات، وإن كان ثمة شرطان أساسيان ليبقى هذا التحول مقبولاً وصحياً: أولهما ألا يكون جذرياً، فمن غير المتصور أن يتحول المفكر 180 درجة ضد أفكاره السابقة. وثانيهما: أن يتم هذا التحول في مدى زمني طويل وليس بين عشية وضحاها على منوال كثيرين أظهروا ميولاً رجعية قياساً الى مواقفهم التقدمية الأولى، فتحركوا مثلاً من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، ومن الأيديولوجية القومية الى الإسلام السياسي بشتى فصائله، ومن التماهي مع الغرب والدراسة فيه أحياناً كثيرة الى كراهيته والدعوة الى مقاطعته أحياناً أخرى، فبقدر ما نلوم أولئك الذين يتحولون الى أقانيم تدعي الكلية والثبات والاكتمال من البداية، يجوز بالقدر نفسه أن نلوم المنقلبين على أنفسهم، لأسباب سطحية غالباً ونفعية أحياناً.

والدافع الثاني وجـودي، وأعني به محاولة المبدع التوافق مع المكونات الأساسية لهويته كلما طال به العمر وشارف على الرحيل، بتأثير مخاوف الفناء وهواجس العدم، التي ترتبط بطبيعة الرؤية الإيمانية للتاريخ، خصوصاً بين أديان التوحيد التي يقع الإسلام في القلب منها، وجميعها تربط نهاية التاريخ بحدوث القيامة كنهاية لعالم الشهادة، وبداية عالم الغيب الذي يتم فيه الحساب ثواباً وعقاباً، حيث النعيم الدائم لبعض البشر، والعذاب المقيم للبعض الآخر. ففي هذا السياق، نلمس الاقتراب التقليدي من الدين لدى عديد المفكرين العرب في مرحلة العمر المتأخر، التي يبدو فيها الناس أكثر حرصاً على التأسيس لما بعد الحياة أكثر من الحياة نفسها، وإن كانوا لا يقولون ذلك صراحة، بل يمارسونه من خلال آلية ذهنية دفاعية وهروبية (نفسية) معروفة وهي إعادة قراءة الماضي في ضوء المستقبل، ومن ثم القيام يتقديم تأويلات جديدة لأحداث التاريخ نفسه الذي عاشوه وأنتجوا فيه أفكارهم الأولى.

والدافـع الثالث سياسي يتعلق بموجات التحول العالمي، فالذي لا شك فيه أن نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز الاتحاد السوفياتي كقوة عظمى من داخل فضاء الحداثة الفكرية ولكن من خارج إطار الليبرالية الغربية، قد ألهم عديدين من مثقفي العالم وأجياله الشابة لسبعة عقود، بلغت ذروتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية حينما دخلوا في حالة ثورية جعلتهم يتصورون إمكـــــان نشوء عالم حديث خارج إطار المركزية الغــــربية، فانطلقت في كل أنحاء العالم موجة إعجــــاب باللينينية والماركسية والاشتراكية الإنسانية، حيث كان النموذج من بعيد ومن خارج، يبدو جذاباً وجاذباً. وعندما انهار الاتحاد السوفياتي كان ذلك إيذاناً بهزيمة التجربة في العالم أو بالأحرى هزيمة النموذج (إنسانياً) ولم يكن غريباً أن تحدث مراجعات كبرى لدى مثقفي العالم، وأن تشهد الثقـــافة العربية نكوص العديدين من المثقفين اليســـاريين عن الاشتراكية في اتجاهات عدة أبرزها الإسلام السياسي الذي وجدوا فيه طوق نجاة يمدهم بـ «العقيدة الفكرية» التي يقتاتون عليها وإن اختلف محــتواها، فالبنية العقلية الشمولية واحدة (جوهرياً) وإن اختــــلفت أشكالها (ظاهرياً)، من دون أن ننكر هنا قـــــدرة بعض المفكرين على التخــــلص من النسق الاعتقادي هذا والاندماج في التيار الليبرالي الذي وجدوا فيه قدرة أكبر على النجاح وإن كان بعضهم قد وقع في غمرة حمـــاسته وحرارة تحوله، في خطأ القبول بالاحتلال الأميركي للعراق ومحاولة تسويغ ما أسمي بـ «ديموقراطية الدبابة».

أما الدافع الرابع فنفعي/ أناني/ سوقي يتعلق بالانقلاب على الذات سعياً الى مأرب مباشرة، فثمة كثيرون تحولوا جذرياً عن مواقف فكرية قديمة بفعل ارتباطات جديدة بسلطات كانوا قد نشأوا وتكونوا في ضديتها أو على الأقل في موقع محايد منها، وذلك بعد فشل القوى التي طالما دافعوا عنها أو ذبول التجارب التي تحمسوا لها، ومن ثم بدأوا بالتكيف مع الواقع واللعب على المضمون بغرض انتهاز الفرصة لتحقيق مصالح مادية أو أدبية بعد أن فات قطار العمر ولم تتحقق الرؤى المثالية أو الأحلام السياسية، فإذا بههم يعيدون تشكيل مواقفهم الفردية التي تعرضوا للإيذاء أو الإهمال بسببها. وربما كان هذا هو حال أولئك الذين تشكل الأيديولوجية المكون الأساسي في تكوينهم الفكري قياساً الى المكون المعرفي، فالمثقف المؤسس على معرفة رصينة لا يصيبه ذلك التحول الجذري قط أو على الأقل بالدرجة نفسها التي يصيب بها المثقف الأيديولوجي.