شما بنت محمد بن خالد آل نهيان

 مرآة الحياة فيها انعكاس لكثير من البشر بكل اختلافاتهم وأنواعهم وثقافاتهم، وحين نقف أمامها نجد وجهنا متصدراً واجهة المرآة، لكن خلف هذا الوجه سنجد وجوه الآخرين تلقي ظلال معارفها عليه، فما نحن إلا حزمة انعكاسات معارف الآخرين في مرآة العقل، تتشكل ملامحنا من آبائنا وأجدادنا، وتتشكل عقولنا من انعكاس أفكار الآخرين على عقولنا. حين ننظر في مرآة الذات نقرأ ونفهم ونعي تلك الوجوه والمعارف المنعكسة من زوايا المرايا المختلفة، حينها ندرك ذواتنا، ونكتشف أننا نسخ لكل ما ورثناه من معارف وعلوم حضارات سابقة، وكل ما في العصور التاريخية من فكر وأشخاص مع تطور كل ما أنتجه الإنسان، وهنا نقف عند مفترق الطرق، إما أن نكون نسخاً متجددة ومتطورة تعيد إنتاج أفكارها، أو نسخ مكررة دون إبداع أو تجديد أو تطوير. الأولى تصنع الحضارة بملامح خاصة ومتفردة، وأما الثانية فما هي إلا تابع لحضارة أخرى ويظل المجتمع مشوهاً بلا ملامح فهو نسخة مكررة من حضارات أخرى.

حين نقف أمام مرأة الذات لنقرأ ما في دواخلنا وعقولنا، قد تصيبنا الدهشة أحياناً، ونرى أن هناك بعض الأفكار والتفاصيل التي قد تبدو غريبة عنا، ونشعر تجاهها بغرابة لا تنفي وجودها، وكونها جزءاً من كياننا.

في تلك اللحظات التي نرى فيها انعكاسات ذاتنا على المرآة ندرك بعض ما كنا لا ندركه سابقاً، ونتعرف على انحناءات جديدة في الذات كنا نجهلها، قد تكون انعكاسات قديمة لكنها كانت في خبيئة المعرفة غير مُدرك وجودها، ربما هي تكونات لانعكاسات أفكار أخرى زارتنا ورحلت وتركت أثراً فيناً فتفاعلت مع مكنوناتنا، وانتجت شيئاً جديداً مختلفاً لم ندركه تكون في هدوء وصمت داخل عقلنا، فنغرق في الدهشة لحظة التعرف عليه واكتشاف وجوده نعيش لحظات دهشة طفل يستكشف العالم للمرة الأولى وكأننا لم نمر من هنا يوماً.

وأنا أقرأ أحد فصول كتاب (تيودور أدورنو من النقد إلى الاستطيقا) لعدة كتب توقفت عند جملة وردت في إحدى الفصول التي تتحدث عن حضور فكر "أدورنو" في نظرية السلطة لدى ميشيل فوكو وفلسفة التفكيك عند جاك دريدا (إنه حضور الصوت الذي يكون حاضراً وغائباً في آن. واحداً ومتعدداً معاً، حاملًا للاختلاف ومغايراً لنفسه في نفس الوقت وهو حضور شبح الأب العائد من الماضي، ولكن الحي والمؤثر أكثر من الحضور الواعي والمباشر، إنه إذا ذلك الأثر القادم من زمن ما ليعيد إنتاج الماضي في الحاضر) إنها تلك الحالة التي تنتابنا حين نقف أمام مرايا الحياة فنرى وجوهاً قد رحلت عنا منذ زمن وكأنها تعود، وفي عيونها نلمح رغبة في استكمال أعمال لم تكملها في الحياة، وكأنها تعود إلينا من عالمها الآخر، تمسك بأيدينا ترشدنا لبعض المنحنيات التي يجب أن نتخطاها في الحياة، وجوه غابت في ظلمة العالم الآخر لكنها ظلت باقية في وهج المرايا منعكسة بأفكارها وآثارها فينا وتكوناتنا الذاتية التي شكلتها أثناء حياتها، فتعود في لحظات استدعاء حين لا نقدر على قراءة المرايا الحياتية.

وهناك وجوه مازالت تنبض بالحياة، ولكنها غائبة عن مرايانا، فهي وجوه مطفأة تمتص منا النور، ولا تعكسه لأحد مثل ثقب أسود يمتص النور من الكون، مثل هؤلاء لا نجد لهم انعكاساً في مرايا ذاتنا، فتظل وجوهاً غائبة رغم حضورها، ولا يبقى لنا إلا الوجوه الحاضرة رغم غيابها.