محمد البشاري

يقوم العمل الديني والدعوي والخيري الإسلامي في الشرق والغرب على مؤسسات دينية، تختلف تلك المؤسسات ما بين مؤسسات فردية، أو مؤسسات حكومية، أو روابط جماعية، أو كيانات كبيرة ومستقلة، ومؤسسات تعمل بخطط استراتيجية تقوم على أهداف متراتبة يكمل بعضها بعضاً وفقاً لجداول زمنية، يلمس الشارع والحكام أثرها، وتكمل جهود الدول والأفراد والمجتمعات في النهوض بالأمة الإسلامية من كبواتها.

وهذا التنوع القائم في عمل المؤسسات الدينية، تنوع تاريخي قائم يتنازع ما بين التمسك بتلابيب المدارس التقليدية التي يصعب عليها مجاراة العصر والتقدم العلمي والانفتاح المعلوماتي، ومحاولات للحاق بركب العصر من أخذ سريع بتوظيف تلك الأدوات العصرية في خدمة الدعوة، بما لا يخل بالأصول والثوابت، أو يضر بقيمنا الدينية الأصيلة.

ودعونا نتفق على أن الديمومة والاستمرار والقدرة على التأثير والبقاء كجزء مؤثر من تاريخ تلك المؤسسات الدينية لن يكون على الإطلاق بالعمل الفردي، فالمجتمعات العربية والغربية على السواء أضحت لا تعترف بمجد الأفراد، على قدر احتفائها بما استطاع هؤلاء الأفراد صناعته من تحقيق تغيير جذري في فكر المؤسسات تلك من حيث إدارتها بطريقة وأسلوب عصري، وكذلك صناعة مدرسة من أجيال متعددة، تستطيع أن تحدث نقلة نوعية، تكمل الرسالة وتواصل تحقيق الأهداف.

ولعلي هنا أشير إلى نموذج تجربة فضيلة الإمام العلامة الشيخ الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق، وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وهو عالم يعد من أبرز علماء عصره جمعاً بين المحافظة على الأصول والثوابت وإلماماً بالتراث وأدواته العلمية، وفي ذات الوقت من أكثر العلماء إلماماً بأدوات العصر والواقع ومستجداته، وربما ذلك الأمر انعكس على تجربته التي استمرت في دار الإفتاء المصرية لعقد من الزمان، مثل نقلة نوعية في دار الإفتاء المصرية بين المدارس التقليدية والمدرسة العصرية، حيث نجح في وضع استراتيجية متكاملة تضمنت أرشفة إلكترونية لتراث دار الإفتاء، وتدشين مواقع إلكترونية بلغات متعددة وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وتطوير وتدريب كوادر دار الإفتاء، ووضع خطة لاستكمال وتطوير المباني والرسالة، والانتقال بفكره ورؤيته من دار الإفتاء إلى تدشين أكبر كيان خيري مصري يقوم على الفكر الاجتماعي الخيري المعاصر،، لنجد ربما للمرة الأولى التفات العمل الخيري للإنفاق في التعليم والبحث العلمي إلى غير ذلك من مناشط يضيق المقام عن ذكرها، فضلاً عن حصرها.

ولعل من حسن الطالع أن فضيلة الدكتور علي جمعة سلم راية دار الإفتاء قبل خمس سنوات للعالم الجليل الفاضل الدكتور شوقي علام، الذي أكمل ما بدأه الدكتور علي جمعة من خلال استكمال وتطوير ما بدأه من خطط، وكأنك أمام تخطيط استراتيجي متكامل، وصل بدار الإفتاء المصرية من مجرد دار لإفتاء أهل مصر إلى تَبَني تشكيل أكبر اتحاد نوعى لدور الإفتاء في العالم شرفت بكوني عضواً مؤسساً فيه، كما خرج بدار الإفتاء المصرية شرقا وغرباً، ولعل الاستقبال الشعبي والرسمي الأخير لمفتي مصر الشيخ الدكتور شوقي علام في دولة باكستان لهو خير دليل وشاهد على مقام وقيمة ومكانة ما قدمته دار الإفتاء للأمة الإسلامية.

فهكذا تكون المسؤولية، وهكذا يكون العمل الإسلامي سعياً هادئاً، وبناءً بلا معارك، وتأثيراً في الشرق والغرب، ورجالاً تربوا على مائدة عالم دؤوب ونشيط وفعال، والنتائج مشهودة وملموسة عند الحاكم والمحكوم، فالتنازع لا يستقيم وعمل المؤسسات الدينية، والعمل البناء الصادق المخلص يحقق أهدافه يقيناً، لأننا نقوم جميعاً في المؤسسات الدينية على مهمة البلاغ عن رب العباد، فليس علينا إلا العمل الجاد المخلص، والله وحده هو من يتولى عنا إنجاح المهام.

إن التخطيط الاستراتيجي العصري المتكامل لعمل المؤسسات الدينية لهو عين حسن التوكل على الله أخذاً بالأسباب وسعياً لتحقيق تواصل أكثر فعالية في مجتمعات تتوق للعالم الواعي والجامع بين أدوات واقعه وعصره، وقادر في الوقت نفسه على مواكبة علمه وتراث دينه مع تلك المستجدات المتسارعة التي لن تنتطرنا طويلاً.