بكر عويضة 

ليس بالوسع أن أحصي كم مرة تردد على مسمع مني السؤال أعلاه، منذ حطت حقائب غربتي ببريطانيا. الأرجح أن غيري بين العرب المقيمين بهذا البلد، أو في غيره من مضارب المغتربين بالجهات الأربع للكوكب، سمع من يثير التساؤل ذاته، أو ما يعبّر عن مضمونه. بالطبع، من السهل، ومن الصواب كذلك، استسخاف مجرد جهل أي فئة بين شعوب العالم، بما يريده شعبٌ تعرض لإحدى أبشع مظالم اقتلاع البشر من أرض أجداد جدودهم، بغرض تأسيس كيان آخر فوق أرضهم. بالمقابل، سوف يبدو من الصعب، ربما أقرب للمستحيل، إقناع أي مطالع لهذا المقال، أنني لم أعد أستغرب سماع السؤال ذاته يطلع علي من قبل بعض الجيران، أو المعارف، في هذا البلد، كلما تجدد اشتعال دوران عنف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إذ سرعان ما يستحوذ ذلك التطور، تحديداً، على المساحة الأهم من رادارت أغلب محطات التلفزة العالمية، رغم كثرة البقاع المشتعلة حروباً في عالم مضطرب على نحو غير مسبوق من قبل.


لماذا، في تقديري، لم يعد التساؤل، من جانب غير العرب، عما يريده الفلسطينيون، يثير الاستغراب؟ باختصار، لأن شواهد عدة، باتت تؤكد أن الصراع هو بين قوم يزعمون أن السماء أعطت آباءهم الأولين صفة «الشعب المُختار»، لكنهم يعرفون ماذا يريدون، رغم ما بينهم من تباينات، وبين شعب دُفِع بسبب تنازع أهواء قيادات تنظيماته إلى موقع «المحتار». ليس المطلوب هنا الخوض في تفاصيل خلفيات تاريخ تولى، ولا النبش بين أوراق ما سبق من صفحات قرون انتهى تأثير فعلها على أرض الواقع. بل مطلوب النظر بأعين ترى ما يجري حولها، والإنصات بآذان تسمع صدى وقائع صارخة تحيط بها، فتفهم مراميها، وتخطط لمستقبل أجيالها، غير معنية سوى بما فيه خيرها قبل غيرها.
قبل نكبة الفلسطينيين بضياع أرضهم وتشتت أهواء قياداتهم، وبعدها، تعرضت شعوب عدة لمظالم احتلال الغرباء أوطانهم، فرصّت صفوفها وتصدت للمحتل تصدي الجسم الواحد، إذا اشتكى عضو منه تداعى له الكل بالدعم والمؤازرة. في المثل الفلسطيني، انقلبت الحال إلى تشرذم مقاومة المحتل بين فصائل تنادى بعض قادتها على بعضهم، بدل أن يكونوا عوناً لبعضهم بعضاً. في هذا السياق، يُثار سؤالٌ أرجح أنه مشروع. لماذا، في الأصل، وُجِد أكثر من فصيل فلسطيني، كلٌ يزعم أنه الأصح على طريق تحرير فلسطين؟ لماذا لم يسمح الجزائريون بأي خلاف خارج أطر جبهة التحرير الوطني الجزائري؟ ومن قبل الجزائر، من تونس إلى لبنان، مروراً بسوريا والعراق، وفي مصر وليبيا والسودان، لماذا لم يحصل أن مقاومة المحتل الأجنبي وصولاً إلى تحقيق الاستقلال الوطني، شهدت ما اكتوت به فصائل المقاومة الفلسطينية، منذ انطلاق حركة «فتح» - 1/ 1/ 1965 - وما تلاها، من تناحر المتناحرين، وعبث العابثين، وانشطار التنظيم ذاته، أحياناً، على نفسه تنظيمات شتى؟


يروق لمنظرين كُثر - خصوصاً على ضفاف الفلسطينيين - جواب يقول إن لقضية فلسطين خاصية ليست لغيرها بررت ذلك التعدد التنظيمي. أما أن الحالة الفلسطينية تفرّدت بما لم تعانيه حالات تحرر عربية غيرها، فذلك حق. وأما توظيف ذلك في تبرير التشتت التنظيمي، وتعدد الولاءات في المنافي وديار الشتات، فهو باطل ليس يقبله عقل. الواقع أن ما اكتوى به فلسطينيو المهاجر من آلام ومآسٍٍ جراء صراعات الفصائل الفلسطينية، واحترق بناره مواطنو دول سمحت لتلك الفصائل بالإقامة على أرضها، يفوق في بعض جوانب بشاعاته كما تشهد بذلك حرب المخيمات السيئة الصيت على أرض لبنان - ما لحق بأهل قطاع غزة والضفة الغربية طوال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ما بين 5/ 6/ 1967 وبدء إقامة السلطة الوطنية إثر اتفاق أوسلو 1993.


كلا، لم تكن هناك أي ضرورة لتأسيس أي تنظيم فلسطيني خارج منظمة التحرير الفلسطينية، كما قبل بها الفلسطينيون، والعرب، والمسلمون، وتعاطف معها، بل وساندتها، عواصم عالمية، كياناً يمثل الفلسطينيين ويسعى لأجل تحقيق حقوقهم، فور تأسيسها سنة 1964. حتى حركة «فتح» كان الأولى بقادتها أن يقرروا إدماج حركتهم ضمن أطر المنظمة، بدل الإصرار على تزعمها والتحكّم بكل صغيرة وكبيرة في إدارتها. حقاً، لولا التشتت التنظيمي، وتعدد الولاءات، وتناسل التنظيمات، لما وجد أغلب الفلسطينيين أنفسهم في حيرة، مع أي تنظيم يصطفون، ولأي الشعارات يهتفون، ولما وجد أي طرف في العالم مبرراً للتساؤل: ماذا يريد الفلسطينيون؟