عادل درويش

 هل تعطي بعض الإحصائيات العامة نتائج خاطئة ينساق الرأي العام وراءها، ويدفع ضغطُ الصحافة المسؤولين والحكومات إلى التسرع في اتخاذ سياسات للتعامل مع نتائج فرضيات غير دقيقة فتُتخذ قرارات قد تؤدي إلى مشكلات وأحياناً كوارث؟

الجدل يدور اليوم بعد اضطرار الشركات والمؤسسات التي توظف أكثر من 250 من العاملين، لنشر معلومات عما يسمى «سياسة المساواة بين الجنسين في الأجور والمركز الوظيفي» للشركات والمؤسسات.
الحكومة أصدرت القانون استجابة لضغوط صحافة يسيطر عليها الفكر الليبرالي اليساري والحركة النسوية (آيديولوجية أكثر تطرفاً من حركة المساواة) التي اكتسبت زخماً بادعاءات التحرشات الجنسية، ونشاط نجمات هوليوود بظاهرة ما تُسمى الفروق غير العادية في الأجور بين الجنسين عند تأدية الرجل والمرأة وظيفة مماثلة.
أكثر من 10 آلاف شركة ومؤسسة أعلنت الكشوف بأرقام النسب المئوية وليس تفاصيل العاملين وفق قانون حماية خصوصية المعلومات.
نسبة التفاوت (الظاهري) في الأجور بين الرجال والنساء تراوحت ما بين 18% و73%.
صرخت مانشيتات الصحف ومقدمات نشرات الأخبار بظلم النساء وعدم المساواة. لكن هل ملخص الأرقام يعكس الواقع العملي في ميدان عمل شركات تتراوح ما بين خطوط طيران، وصناعات بناء السفن، ومحلات السوبر ماركت، وتوصيل الطرود إلى المنازل؟
لم تطرح الغالبية العظمى من الصحافيين هذا السؤال. البعض (خصوصاً من الرجال) خشي تهمة الميسوجينية (الانحياز الذكوري ضد المرأة) التي توجهها المؤسسة الصحافية الرسمية إلى جيل الرجال المحترمين كحجر يهشم الواجهة الزجاجية لمكاتبهم.
الآخرون صحافيو «غوغل» و«ويكيبيديا» الذين لا يغادرون مكاتبهم تجولاً بين البشر بحثاً عن حقائق الواقع كجيلنا قبل الفاكس والموبايل. الأكاديميون الذين بحثوا في حقائق هذه الأرقام، وشككوا في الفرضيات كانوا كعازف الكمان الكلاسيكي المنفرد وسط مظاهرة صاخبة من مائة ألف يدقون الطبول.
المؤسسة الصحافية البريطانية (الشبكات الإذاعية والتلفزيونية الكبرى والصحف القومية والمحلية) كانت مظاهرة المائة ألف الصاخبة، ولم يُسمع سوى صوتين أكاديميين في البرامج الحوارية؛ أما تقارير نشرات الأخبار فأخذت كلها العناوين المختصرة عن تخلف أجور النساء عن أجور الرجال بنسبة تصل إلى 73%، دون ذكر للدراسات التي تشكك في مصداقية الإحصاءات.
عازف الكمان كان صوتين: دراسة معهد الشؤون الاقتصادية، والثاني كتاب من معهد في كاليفورنيا أصدر نتائج بحث عن خطورة إحصائيات مبنية على فرضيات غير دقيقة، قد تؤدي بالشعور بالارتياح لكنها قد تدفع المجتمع ككل إلى تبني سياسات تضر بالأفراد على المدى الطويل.
الشركة «الأسوأ» كانت «طيران رايان» الآيرلندية، حيث تبلغ نسبة تفاوت الأجور بين الجنسين 73%.
كيت آندروز، من معهد الشؤون الاقتصادية، أوضحت أن الغالبية الساحقة، من الطيارين من الرجال. أجر الطيار ومكافآت الأوفرتايم وبدلات السفر أعلى الوظائف دخلاً في قطاع الطيران، بينما أدنى الدخول في أقسام غالبيتها من النساء كموظفي الاستقبال والتليفون وعمال النظافة.
إيضاح الدكتورة آندروز أن أخذ المتوسط للأجور وتقسيمها على عدد العاملين بنسة الذكور إلى الإناث هو تحليل غير دقيق، لأن مقابل كل طيار يوجد ما بين 3 و5 من المضيفات، و30 من العاملين في الوظائف الأخرى وغالبيتهن من النساء. الدراسة الأميركية الموازية استخلصت أن الإحصائيات المنشورة مضللة، لأنها تجاهلت اختيار النساء والرجال طواعيةً للوظائف بناءً على الغريزة الطبيعية والفروق البيولوجية للأنثى والذكر، وأيضاً الالتزامات الأسرية والاجتماعية للفرد.
الدراسة البريطانية في معهد شؤون الاقتصاد أيضاً وضعت هذه العناصر في الاعتبار، لكنها أضافت إليها الخبرة والزمن الذي يقضيه الشخص في الوظيفة، حيث تفقد المرأة بضع سنوات بسبب الحمل والولادة وقضاء أشهر أو سنوات في الرضاعة ورعاية الطفل، وبالتالي يصبح تراكم الخبرة المهنية للرجل على مدى 10 أعوام مثلاً، أكثر من خبرة المرأة في وظيفة مماثلة بنسبة تتفاوت ما بين الربع إلى أحياناً 70%.
الدراسة الأميركية ركزت على مؤسسات الخدمات التجارية لتوصيل البضائع وشركات السوبر ماركت. استمارات إحصائيات الحكومة البريطانية وضعت عمال مخزن البضائع، والكاشير (محصلة النقود) وسائق توصيل الطرود، كمستوى واحد حسب «القيمة المضافة من ساعة العمل لربح المؤسسة. لكن مصممي الاستمارة تجاهلوا طبيعة العمل. أغلب العاملين في المخزن أو السائقين من الرجال لأن العمل يتطلب مجهوداً عضلياً لحمل طرود وبضائع كبيرة وثقيلة، وسفر ساعات طويلة، وورديات العمل الليلي. دراسة بروفيسور السيكولوجيا الجماعية وتلاميذه اكتشفت أن غالبية النساء بخيارهن يتجنين هذه الوظائف، ويخترن وظيفة الكاشير والسكرتيرة، لملاءمتها غريزياً، وأيضاً لتوفر فرص «بارت تايم» أي اختيار ساعات قليلة للعمل، غير متوفرة في العمل البدني.


لكن الحركة النسوية ترفض الاعتراف بالفروق الجسمية بين الرجال والنساء. بالطبع هناك نساء أقوى بدنياً من الرجال، لكنه الاستثناء من القاعدة، وهناك رجال أضعف جسمياً من نساء، وهم أيضاً الاستثناء.
تقرير معهد الشؤون الاقتصادية في دراسته المفصِّلة لأسباب تفاوت الدخول نصح بأن أخذ الأرقام المنشورة كحالة عامة، هو تضليل للمجتمع.
نموذج هذا التضليل كان مقابلة الدكتورة آندروز في برنامج اليوم الصباحي السياسي لـ«بي بي سي»، حيث لم تستطع المذيعة (وهي من ناشطات الحركة النسائية) مقاومة حجة الباحثة إلا بالقول: «كثير من النساء لن يوافقنكِ الرأي»؛ وردّت الباحثة بأن دراسة مجموعة من الباحثين والخبراء الاقتصاديين في المعهد هو تقرير أكاديمي وليس رأيها الخاص. النائبة البرلمانية اليسارية ستيلا كريسي اتهمت الباحثة «بطعن الحركة النسوية في الظهر»، وردّت الأخيرة بأن الإحصائيات المضللة التي تُظهر النساء ضعيفات مظلومات لا تخدم المرأة التي يجب أن تعامل وفق كفاءتها ومؤهلاتها، وليس بحصص ومقاعد محددة للنساء بحجة رفع الظلم عنهن.
الملاحَظ أن دراسات معهد كاليفورنيا المنشورة في مطلع العام، وهي مستقلة عن معهد الشؤون لاقتصادية ولا علاقة بينهما، وكانت عن المجتمع الأميركي لا البريطاني، وصلت إلى نتائج مشابهة بأن وضع الفرضيات الخاطئة لن تنتج عنه نتائج مضللة فحسب، بل إن اعتمادها سياسة، إما مبنية على آيديولوجية مثالية وإما على إحساس بفعل الخير، ستعمّق لدى الجماعات والأفراد التي تعتقد أنها مضطهدة وتتعرض للظلم، هذا الإحساس الذي يصبح اعتقاداً راسخاً وجزءاً من مكونات الشخصية الفردية أو الجماعية. وتمضي الدراسة لتقول: إن «النتائج على المدى الطويل ستكون تكاسل هذه المجموعات أو الأقليات التي ستعتمد على الدولة أو المؤسسات العامة في الكوتات