عبدالله بشارة

 أشعر دائماً بأن منابر خطبة الجمعة تستحق المتابعة المستمرة من الوزارة المختصة، فيخطب الإمام متحدثاً إلى أعداد كثيرة من المصلين من مختلف المشارب والثقافات واللغات، حاملاً مباهج الدين وشارحاً قيمه العالية ومفسراً مبادئه النبيلة، في جو يسيطر عليه الهدوء والمتابعة.


لكن الواقع، في معظم الأحيان، غير ذلك، وأكتب من متابعة فلا تفوتني صلاة الجمعة، كنت أصلي في منطقة الدعية لكنني توقفت لأن الخطيب الأزهري يردد الأشعار أمام الآسيويين ويكرر الحكم المستخرجة من دواوين الشعراء ويتوقف أثناء الخطبة طالباً السكوت، وفارضاً الاستماع العام بينما يستمر في هدر الكلام، وقد أشعرت وزارة الأوقاف بملاحظاتي عنه، ولم يتغير، لا سيما في ترديد ما في خزينته من أشعار قديمة وحديثة لا يتابعها أحد.
وذهبت إلى مسجد آخر، ومستمعاً إلى خطيب آخر ينادي على المصلين بتأدية صلاة المودع، وسط جماهير آسيوية لا تعرف ما يقوله الإمام، فأشرت إليه بعد الصلاة بأن الإسلام منبع الحياة المتفائلة لا ينسجم مع اليأس، وأن الدين عمل وأمل وحصاد، كان يتحدث بلكنة لبنانية.
أؤدي صلاة الجمعة في معظم الحالات في مسجد صباح الأحمد في الجليعة، والخطيب هناك كويتي ينقل ما يتم تحضيره عن إيجابيات الحياة، مع روايات تتواجد في كتب التراث، يرويها باقتناع أمام أعداد بعضها يفهم وأغلبها لا يتابع.
منبر الخطابة عنوان لرقي الرسالة المحمدية في عظمتها الانسانية، وفي أخلاقياتها وفي وقار الدعوة التي لا بد أن تحملها مفردات الخطيب، وليس مطلوباً من خطيب الجمعة أن يحفظ جميع أجزاء القرآن وإنما الشرط الجوهري أن ينسجم مع مأموريته في الورع ونبل السلوك ونظافة الضمير، وأن يظل منفتحاً على الحياة متابعاً للتطورات حريصاً على قراءة المستجدات، وعلى علم بما يدور في المحيط الجغرافي، وواعياً للمبادئ التي جسدها دستور الكويت وكلها مستوحاة من أحكام دين الإسلام وسنة نبيه، ومن أبرزها كرامة الفرد وحمايته من قسوة الحرمان والشد على معاني الحرية ومزايا الالتزام بالقانون سبيلاً للمساواة ووقاية للتفوق والدفع بالكلمة المؤثرة بدلاً من غلاظة التعسف.
دين الاسلام واسع في فضائله، العطاء والسخاء والتعالي ونظافة اليد واللسان واختيار الصالحين في مسلك الحياة بلا جدل ومن دون غلاظة.
ولا يمكن للخطبة أن تنفصل عن واقع الدنيا، فاستقرار الأوطان يتحقق مع اطمئنان كل مواطن بأنه محمي بالقانون، وأن حقه مضمون بلا تفرقة في بلد لا يعرف الانقسام، ومتانته في وحدته الداخلية وتوافقه السياسي والاجتماعي، وانسجام سلوكياته مع جوهر الاسلام في إبعاد الرذائل والتحلي بالفضائل.
ويمكن لخطيب المسجد أن يتحدث بالصوت المحتج الذي يتهم قطاعات من المجتمع بما لا يستحسنه، ولا يوافق عليه، فالمنبر إصلاح لا اكراه وموقع توافق لا اتهام وما نشرته الصحافة عن تلك الخطبة يعبر عن تصلب أيديولوجيات ونشافة في قراءة الواقع، ورمي المجتهدين نحو المساواة بالدعوة إلى عادات الكفار والانحلال والتبرج والسفور، هذا النهج لا يتناسب مع ضرورات التركيز في الخطب على ما يجمع، والابتعاد عما يفرق، في وطن نظامه السياسي والاجتماعي والتراثي يرتكز على مدنية الدولة، وعلى ثقافة التعايش وعلى تثمين الحوارات وتجذير السلم الاجتماعي الداخلي.
في خطب الجمعة لا مكان للصوت الساخط لأن ذلك مخالف لمسار التواصل والنصح والمشورة الخيرة، توزيع التهم آفة التصدع، ومن يجنح نحو المساواة يظل مدفوعاً بقناعات نابعة من مبادئ الاسلام في تقديم ما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، بلا تحيزات لجنس أو ملة.
أعود إلى التأكيد على دور الخطابة في الأمن الداخلي والاستقرار النفسي والالتئام الاجتماعي، وغرس المفاهيم الإنسانية النبيلة والتوجه التفاؤلي المثمر في الحياة، فالإسلام كله قيم تنشد النجاح والتفوق في الحياة، والدفع تجاه المعرفة والعلم، فلا يتساوى أصحاب الإبداع بغيرهم من الناس، فقد ميز الإسلام أهل العلم المندفعين نحو البحث والتنقيب والمؤمنين بتصويب السلوك.
منبر الجمعة حساس في موقعه ومميز في تأثيره، وفريد في هيبته التي تستحق أن يعي الخطيب ضرورات حمايتها بالقول الرصين والمفيد، فتكبر المجتمعات مع الرأي السديد وتنهض الأمم بما يجود به المفكرون الساعون لتجاوز الجمود، فمن يقرأ تاريخ الشعوب سيتوقف بلا شك عند تعاضد المنتفعين من الجمود والتخشب، وهم أصحاب الامتيازات، كما كان رجال الدين في أوروبا في القرن الثامن عشر بدعم من رجال الاقطاع وقطيع النبلاء، في تحالف أدى إلى انفجار الثورة الفرنسية في 1789.
ومن ذلك اليوم تغيرت خرائط الحدود وأنظمة الحكم ومقاييس المجتمع، وتبدلت مناهج التعليم وانطلقت مفاهيم انسانية مستجدة تنادي بالحرية والمعرفة واتباع العقل والمنطق.