عبدالله بن بخيت

يواجه العرب اليوم أشد أيامهم بؤساً، أبسط قرارات العقل أثناء الصراع أن تكون مع أو ضد أو محايد.

يتصارع في سورية عشرات الأطراف: جيش الإسلام وأحرار الشام وجيش النصرة والأتراك وجيش بشار الأسد وحزب الله وإيران وروسيا وأميركا. لن تجد بين هؤلاء من تقف معه عندما ترغب في هزيمة الجميع من سينتصر في سورية. أي عبث انتهت إليه هذه القضية.

تعكس الأزمة السورية الحالية حجم البؤس الذي بلغه العرب في عصرهم هذا.

بالعودة إلى تاريخ بعض الدول العربية الحديث سترى أن التاريخ كان يسير في الطريق المؤدي إلى هذا المأزق الوجودي. ستلاحظ أن المشروعات والأحلام تتلاشى واحداً تلو الآخر. في سورية ولبنان والعراق وفلسطين اختفى الحلم واختفت معه كلمة (مستقبل). ميز الله الإنسان عن الحيوان بأن زرع في وعيه اتجاهين. الماضي (التاريخ) والمستقبل (الخيال والأمل). التشوه في ليبيا والعراق وسورية والصومال ألغى غريزة الحلم. صار الإنسان في هذه الدول يعيش على عاطفة الخوف ولقمة العيش وغريزة البقاء.

أتذكر إذا قررت السفر إلى سورية أوطن النفس على الصمت وإذا اضطررت للحديث مع سوري عليَّ أن أتقن المديح والأهم أن أتعلم كيف أبقى يقظاً.

كنت في سورية ساعة وفاة حافظ الأسد. بكته سورية بكل أطيافها رجالاً ونساء شباباً وشيوخاً، لا بد أن بينهم من بكاه صادقاً. بعد يومين من الوفاة اضطررت أن آخذ أحد أطفالي إلى المستشفى. أثناء الانتظار في الممر دخل رجل وقال لطبيب عجوز مشغولاً بالحديث مع أحد المرضى. (يالله يا أبو سامح اليوم فيه مظاهرة ستقيمها نقابة الأطباء تأبيناً للراحل العظيم)، ترك الطبيب مريضه والتفت صوب الرجل وراح يردد بصوت عال كأنه يريد أن يقنع الحيطان. (هذا واجب هذا واجب رحمة الله عليه هذا فقيد الأمة، هذا واجب على الشعب)، ثم ردد الجميع عباراته مع بعض الإضافات التي تكسب كلامهم نوعاً من الخصوصية والإنتاج الشخصي. بعضهم رفع صوته أقوى من صوت الطبيب خشية أن تكون درجة صوت العجوز أصبحت معياراً للولاء. فكرت أن أطلب المساعدة فدرجة حرارة ابني مرتفعة. في آخر لحظة تذكرت فن البقاء صامتاً في سورية. الخطب جلل. ما الذي يريده رجال المخابرات أكثر من موت الزعيم لترتفع يقظتهم إلى ذروتها.

ما يجري في كثير من البلاد العربية يؤكد لك أن الناس في تلك البلاد فقدوا بشريتهم عندما فقدوا القدرة على الحلم ورؤية المستقبل.