علي نون

.. عن لبنان نحكي. حيث يمكن الظنّ بأنّ المعادلة الطبيعية الراسخة في معظم دول الأرض، بأنّ الناس تكرّم الناجح، وتحاسب الفاشل في الشأن الوظيفي العام وتمنعه من الاستمرار في الإدّعاء. هي معادلة مكسورة عندنا. بل الأرجح، إنها معكوسة. أي أن شروط دوام الإدّعاء لا تخضع لمعايير دوام الإنتاج ولا اجتراح الحلول ولا الإبداع فيها، بل لمعايير أخرى متآخية مع الطباع «الأولى» للاجتماع الأهلي والسياسي اللبناني. حيث يتداخل الشأن الطائفي والمذهبي مع الشأن الوظيفي، ويضيع في معظم الأحيان، ميزان القياس بين الصحّ والغلط، والمستقيم والفاسد والناجح والفاشل.

وتلك ليست خاتمة الأحزان. بل جزء منها. بحيث أنّه يُضاف على تلك الطباع الأولى، تداخلات الاستباحة الخارجية الغليظة والحقيقية.. وهذه كانت سابقاً ممثّلَة بالوصاية السورية وضبّاطها وبالضرورات الحتمية عند صاحب الشأن الأسدي لإبقاء لبنان في جملته، داخل المصحّ وليس خارجه، بحيث يبقى الوصي على ذلك المصحّ في موقع المطلوبة «خدماته» بإلحاح.. وإلاّ مات المريض!

بعد ذلك، جاءت الاستباحة الإيرانية من منظور آخر: عجزت عن التشبّه بـ«الشاطر» الأسدي وتكتيكاته الآتية من تمرّسه المديد في شؤون جاره الأصغر. والتي جعلته متمكّناً عند عموم اللبنانيين! ومصدر حماية ورعاية ونفوذ، وقادراً على توزيع خدماته على معظم، بل جلّ مكوّنات الاجتماع الطائفي والمذهبي والسياسي.. لكنها (تلك الاستباحة الإيرانية) لم تعجز عن التحكّم بالمصير العام انطلاقاً من إمساكها التام بمصير جزء من المكوّنات الوطنية المحلية.. ركّزت على العصب وعافت التفاصيل. وأمسكت بالأساس وتركت الفروع. تحكّمت بعصب الحياة والموت الذي هو قرار الحرب والسلم مثلما أمعنت في جعل (وإبقاء) فكرة الدولة المركزية بكل وظائفها وسلطاتها وقواها فكرة مهمّشة في أساسها من خلال ازدواجية السلاح و«قضية» «المقاومة»!

والأداء الإيراني بهذا المعنى اللبناني، هو جزء من أصل المنطق المؤدلج في جمهورية «الولي الفقيه». وترجمة لاستراتيجيّته المدروسة، التي تنطلق من عصب مذهبي حُكماً وشرعاً ودستوراً، وتعرف أنّها مستحيلة في دواخل غيرها حُكماً وشرعاً ودستوراً! لكنها حوّلت نقطة الضعف هذه، إلى مصدر قوة حاسم: أمسكت بالفرع المذهبي وحوّلته أداة للتحكّم بالفروع الأخرى.. وغصباً عنها! وصارت بذلك مثل خاطف الطائرة الذي يمكنه وحده التحكّم بكل مصيرها! ومن أي زاوية يختارها! ويكفيه في ذلك، أن يرمي قنبلة صغيرة واحدة، أو يطلق بضع رصاصات.. وينتهي الأمر، إلاّ إذا انصاع باقي الركَّاب لمطالبه وأهوائه ومراميه!

.. والخاطف المذكور يستند إلى بنيان متكامل، حزبي تنظيمي حديدي مذهبي مدرّع كامل التدريع، ومحلّي مكتمل المواصفات.. وحجّته الجدالية تامّة وحاضرة.

تارةً «تتواضع» بادّعاء التصدّي لإسرائيل! وتارةً «تتكبّر» بادّعاء حماية كل اللبنانيين من الإرهاب والتكفير.. وتارةً تجد سبيلاً ثالثاً قوامه تمهيد الطريق أمام قيام «دولة الحق» على المستوى البشري العام..

صعب في المبدأ والتتمات تجاهل هذه المحنة المركّبة، أو التغاضي عن تأثيراتها السلبية الأكيدة على مجمل محاولات إخراج المريض اللبناني من المصحّ! ويزيد على أسباب القنوط أنّ الميزان المكسور عندنا يوصل إلى الآتي: كل «مقاومة» في التاريخ والجغرافيا قصدت التضحية الخاصة خدمة للمجموع الوطني العام، إلاّ «المقاومة» التي في ديارنا تطلب العكس و«تفعله» وتجعل من مصيرها هو الأساس الذي تهون من أجل حمايته كل الأثمان بما فيها المصائر الوطنية العامة! وأرواح اللبنانيين وممتلكاتهم ودولتهم ومؤسساتهم وبُناهم الخدماتية واستقرارهم السياسي وعلاقاتهم الخارجية.. إلخ!

.. حصل ذلك بالأمس مع محاولات الرئيس الراحل رفيق الحريري إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتحسين أحوال الدولة والناس. وتصفية آثار الحرب الأهلية والحروب الإقليمية الرديفة.. ولم ينجح برغم جهده الأسطوري في اجتراح «تعايش» بين نقيضين ومشروعين، وصولاً إلى الخاتمة المأسوية المعروفة!.. بل الأصحّ أنّه دفع ثمن نجاحه في إبراز وتظهير مدى عدمية قاتليه وفشلهم في تطويع الاجتماع اللبناني وإعادة قولبته خارج بديهياته المفتوحة على الحياة والعالم والحداثة.

تغيّر الزمن الأول، صحيح. لكن الدقّة تستوجب التذكير بأن الخاطفين لا يزالون بيننا! وأن استنفارهم في ذروته! وأنّ حساباتهم المهادِنة قد تتغيّر بلمح البصر! وأنّ الحذر أوجب الوجوب وأوّل البديهيات!.. وأنّ ذلك في جملته لا يمنع في كل الأحوال، من تقديم واجب الاحترام والتقدير لمحاولات الرئيس سعد الحريري إبقاء بلدنا واقفاً على أعمدته، متطلعاً إلى الحياة والضوء والحرّية..

النجاح مخيف بين الفاشلين يا صاحبي. أم ماذا؟!