خالد الحروب

 هناك قانونان للحرب وفق الحاخام الإسرائيلي «أوفير ووليس» المحاضر في كلية بناي ديفيد العسكرية: قانون حرب الرب، أو الـ mitzvah، وقانون حرب المُضطهد. هدف قانون حرب الرب ليس فقط الدفاع عن شعب إسرائيل بل وأيضاً قتل وإبادة أعداءه المُحتملين،

مثل أعدائه في غزة بسكانها على سبيل المثال. النص التالي هو الترجمة التقريبية لما نشره ناشطون غاضبون على محاضرة دينية مصورة بالصوت والصورة للحاخام المذكور، ألقاها في برنامج تأهيل ديني لجنود وضباط إسرائيليين في الكلية العسكرية المُشار إليها: «... نحن نقول إن حروب اليوم هي حروب ميتزفاه للسيطرة على أرض إسرائيل (أي حروب الرب)، ...، وقوانين حرب الميتزفاه تختص بحرب احتلال الارض والسيطرة عليها ... فحتى لو لمْ أحتل غزة الآن فإن احتلالها يبقى جزء من السيطرة على أرض إسرائيل، ولهذا فإن الحرب عليها في هذه الحالة تعتبر حرب ميتزفاه أيضاً. وتبعاً لذلك فليس هناك أي طريقة أخرى، مثل عدم قتلهم جميعاً. لأن هذا هو الفرق بين قانون حرب المُضطهد وحروب الميتزفاه (الإلهية)... حرب الميتزفاه لاحتلال الأرض لا تتوقف عند حماية شعب إسرائيل من أعدائهم... وأرى أنها قد تمتد... إلى التدمير والقتل والتسبب في إبادتهم (الأعداء!) جميعاً. لن أفعل ذلك الآن لأن القيام بذلك يعارض الاتفاقيات الدولية ويعني نهاية دولة إسرائيل، إلا أن حدثت معجزة من المعجزات... وهذا هو السبب الوحيد الذي يمنعني من القيام بذلك (أي إعلان حرب ميتزفاه ضد غزة وسكانها)». هذه الكلمات مقتبسة من نص المحاضرة نفسها، والحاخام المحاضر يتلقى راتبه من الدولة، والكلية العسكرية المرموقة تنفق عليها وزارة الدفاع الإسرائيلية: http://mondoweiss.net/2018/04/influential-soldiers-genocide/. هذا للقول إننا لا نتحدث عن أصوات متطرفة ومهووسة بالإبادة، لكنها لا تلعب دوراً مؤثراً في قلب المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بل للقول إن هذا جزء من خطاب يشكل عقول وتصورات الجنود الذين يواجهون الفلسطينيين يومياً، ويزرع فيهم غريزة بدائية للقتل والتدمير الديني تحت مسوغ حروب الرب وإرادته.

لنتخيل أن مثل هذا الحديث كان محاضرة أو خطبة دينية ألقيت على جنود وضباط في أي جيش لدولة عربية أو إسلامية، تعمل على غسل أدمغة الحضور بأن الحرب الحقيقية هي حرب الرب التي لا تتوقف عند حدود الدفاع عن النفس، بل تشرعن الإبادة الجماعية لليهود وإسرائيل، ولا تفرق بين محارب ومدني منهم. كيف يمكن أن يكون الانفجار الإعلامي والسياسي وإلى أي أسقف ممكن أن يصل. في الحالتين وفي كل الأحوال لا حاجة لتأكيد أبجديات إنسانوية يجب أن ترفض كل حروب الإبادات العنصرية جملة وتفصيلاً ومن دون أي «لكن» ومن دون أي تسويغ. يمكن هنا توجيه نقد إلى هذه السطور مرده أن التقاط ما قاله هذا الحاخام وتضخيمه وتسليط الضوء عليه مسألة تقع في إطار المبالغات التي لا ترى إلا جزءاً من الصورة، صورة إسرائيل الديموقراطية المدنية ذات الجيش المُسمى «جيش الدفاع» والمُلتزم بمستوى سلوك وأداء عسكري رفيع يحافظ على حياة المدنيين، كما هي الصورة الرسمية التي تسوقها إسرائيل عن جيشها. ومثل هذا القول والانتقاد هش غير متماسك لأن ما قاله الحاخام ولم يكن يتوقع أن يكون مصوراً ثم مفضوحاً في العلن، تحول إلى خطاب رئيسي ديني داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية التي ظلت تشهد على الدوام صراعات وتنافسات بين «الحرفية العسكرية العلمانية» و «النزعة الدينية المُتصاعدة»، وهي الصراعات المُنعكسة عما يحدث في المجتمع عامة، والمشهد السياسي العريض. فالانزياح الهائل في المزاج الإسرائيلي نحو اليمين الديني يمثل اليوم أحد أهم- وربما أخطر- التحولات التي تشهدها بنية المجتمع الإسرائيلي. الصهيونية التي مثلت العمود الفقري للدولة العبرية وفكرة قيامها ووظفت الدين لخدمة تلك الفكرة، فقدت مركزيتها أو جزءاً كبيراً منها وأصبحت خاضعة للدين الذي استخدمته. وإن كانت الصهيونية العلمانية قد نجحت عبر عقود طويلة في «صهينة الدين اليهودي» وتحويله إلى أيديولوجيا سياسية، وقوضت كل الآراء الدينية الأخرى التي كانت رافضة للفكرة الصهيونية وإقامة دولة يهودية، فإنها (أي الصهيونية) اليوم تجد نفسها ضحية ذلك الدين المتصهين، والذي يعيد الكرة اليوم ويقوم بتديين الصهيونية وتوظيفها لخدمة تصورات المتعصبين والعنصريين دينياً. ويمتد هذا التحول الارتدادي إلى داخل المؤسسة العسكرية ذاتها التي تلتهمها تصورات خليطة بين التعصب الديني والعنصرية المُتصاعدة ضد الفلسطينيين.

ليس ثمة مبالغة أو تهويل في هذا التصوير وأمامنا التصريح النازي والإبادي الآخر الذي أطلقه حديثاً وزير الدفاع الإسرائيلي العنصري أفيغدور ليبرمان، مُندداً بالفلسطينيين المُتظاهرين في غزة في مسيرة العودة الكبرى. ليبرمان وفي تبريره قتل الجيش الإسرائيلي لفلسطينيين عزل وجرح مئات منهم خلال جُمع المسيرات، قال إنه ليس هناك أناس مدنيون في غزة. هناك مليوني فلسطيني محاصرين ومسجونين في قطاع غزة ويعيشون أوضاعاً مأساوية بائسة في منطقة تغص بالبشر وتعاني كل أنواع المآسي، ولخصتها تقارير الأمم المتحدة بوصفها قطاع غزة منطقة قيد التحول لتصبح غير صالحة لعيش البشر مع سنة 2020. هؤلاء جميعاً بأولادهم وأطفالهم وشيوخهم ونسائهم ليس فيهم مدنيون أو أبرياء، كلهم أهداف شرعية لـ «جيش الدفاع الإسرائيلي». هذا التصور والتصريحات العلنية لم تصدر عن متطرف هامشي، أو صوت معزول، أو مهووس ديني يلاحقه القضاء، بل عن وزير الدفاع نفسه، والذي كان وزير خارجية أيضاً، والذي ظل يتنقل من مسؤولية رسمية إلى أخرى. ليبرمان العنصري القادم من مولدافيا، والذي لا علاقة له بالأرض والمكان يريد أن يبيد أهل الأرض وأهل المكان فلا يعود يراهم كي لا يذكرونه بفداحة جريمته.

الصورة الأعم لا تقل عنصرية وجرائمية، ذلك أن إسرائيل وعبر حصارها قطاع غزة، كانت ولا زالت تطبق عملياً ما يحلم به الحاخام أوفير ووليس، حرب ميتزفاه إبادية. الفرق الوحيد بين التطبيق التدريجي الهادئ لحرب الميتزفاه الإبادية الذي تقوم به إسرائيل كدولة وسياسة وبدعم من واشنطن وتواطؤ عالمي وإقليمي أيضاً، وما يطالب به الحاخام العنصري هو درجة العلنية والوحشية في التطبيق. إسرائيل تطبق عملياً نصيحة «ووليس» عبر الخنق البطيء والصامت، تتفادى الضجيج كي لا يحتج من تبقى من شرفاء العالم على الجريمة، وحتى تحافظ على صورتها التي كانت ولا تزال السبب الوحيد الذي يحول دون انخراط الحاخام في حربه التوراتية لمحق الفلسطينيين عن بكرة أبيهم.

ليس هناك منهجية داعشية أبشع من ذلك ولا أكثر تطرفاً منها، لأنها شبحية ومتسترة رغم فظاعاتها. هذه داعشية رسمية تتبناها دولة تزعم أنها عصرية وحديثة وديموقراطية، وليست داعشية حزب أو جماعة متطرفة على الهامش يلفظها المجتمع وتياراته العريضة. داعشيتنا المجرمة التي انفجرت تمظهراتها في سورية والعراق ليست داعشية رسمية ولا سياسة أي دولة من الدول، وظلت تافهة ومسترذلة ومرفوضة من قبل الغالبيات الكاسحة. كما أنها ونظيراتها المتطرفة كالقاعدة وما تفرع عنها وسواها، وعلى رغم كل الضجيج والتصايح النذل بالجهاد ظلت على الهامش وسوف تختفي. بيد أن المُرعب في الداعشية الإسرائيلية هو تمكنها من رأس النظام في إسرائيل، سواء النظام السياسي أو المؤسسة العسكرية. وهي أيضاً ذات الداعشية التي نراها في سياسات وتصريحات أميركية وغربية على أعلى مستوى. هنا تنخر الداعشية في قلب التسيّس وليس على هوامشه، لكنها تعتمد استراتيجية الإماتة البطيئة والخنق الهادئ من دون ضجيج ومن دون تفجير الدم على الشاشات. داعشية البغدادي وعصاباته لا تتصف بإجرامها وحسب، بل وفي غبائها المتوهج بالدم على شاشات التلفزة لتسحب كل الإدانة نحوها، مقدمة الخدمات الجليلة الأكبر للداعشيات الأخرى التي لا تقل عنها بشاعة كي تهرب من الضوء والإعلام.

ليس ثمة أبشع من الحروب والدم في تاريخ الكون، لكن بشاعة الحقيقة لا تخفف من حقيقتها. وحروب البشر كانت ولا تزال قائمة على صراعات وتنافسات السيطرة والأرض والاحتلال والمقاومة. كل حرب من فجر البشرية وحتى الآن يمكن فهمها من منظور الصراعات وحمى القوة وجنون العظمة وتملك الثروة والموارد. مع ذلك ظل استدعاء الآلهة للحرب لتقاتل مع هذا الطرف أو ذاك هوس المُتحاربين منذ عصور السحيقة، من الفراعنة والرومان الإغريق، إلى الهند والصين، وليس انتهاء بأفريقيا وأميركا القارية بشمالها وجنوبها. ليس هناك «ميتزفاه» يهودية أو إسلامية أو مسيحية أو هندوسية يقرر فيها الرب إبادة جنس لصالح جنس آخر، بل تفسيرات وتأويلات مُتعصبين يريدون تجنيد الرب في هذا الجيش أو ذاك، لأهداف وأطماع أرضية. لكن إذا ترعرعت الداعشية في رأس النظام نكون قد خطونا خطوات هائلة ومرعبة حقاً نحو دمار من نوع مختلف.