محمد ولد المنى

أن يتبوأ خمسيني لا يحمل لقب كاسترو في اسمه، ولم يشارك في حرب الأحراش إلى جانب القادة الشيوعيين الأوائل.. منصبَ الرئاسة في هافانا، فهذا بحد ذاته يعد تحولاً مذهلاً في أعين أجيال من الكوبيين لم تعرف لجمهوريتها زعيماً غير فيدل كاسترو ومن بعده أخوه راؤول، واللذين قارب كل منهما سن التسعين في الحكم. لقد «اختارت» كوبا، الخميس الماضي، رئيساً لها «ميغيل دياز كانيل» ليحل محل راؤول كاسترو الذي حرص خلال تصويت البرلمان على المرشح الوحيد لخلافته، على إعطاء الحدث طابع الانتقال السلس للسلطة بين رئيس منصرف وآخر قادم، كما يحدث بشكل اعتيادي في الديمقراطيات التقليدية! لكن كانيل، حليق الذقن والشارب معاً، والمولود بعد الثورة الكوبية بقيادة كاسترو، تعهد عقب أدائه اليمين الدستورية أمام الجمعية الوطنية، بحماية الثورة والدفاع عنها والتمسك بنهج استمراريتها، وقال إن المبادئ ليست موضع تفاوض، وإن راؤول سيبقى «قائداً للثورة الكوبية»، وإن السياسة الخارجية لبلاده لن تتغير.

«ميغيل دياز كانيل» سياسي ورجل دولة كوبي، شغل عدة مناصب في الحزب الشيوعي الكوبي وفي الحكومة الكوبية نفسها، قبل أن يصبح، الخميس الماضي، الرئيس التاسع عشر لكوبا منذ استقلالها عام 1902. وقد ولد ميغيل دياز كانيل في عام 1960 بمدينة «بليساس» عاصمة إقليم «فيلا كلارا» في وسط الجزيرة، وتخرج في جامعة لاس فيلاز المركزية عام 1982 كمهندس إلكتروني، فخدم في القوات المسلحة الثورية الكوبية، قبل أن يعود للحياة المدنية في عام 1985، حيث أصبح مدرساً لهندسة الإلكترونيات في لاس فيلاز، وفي الوقت ذاتها كان موظفاً بأحد المصانع الميكانيكية في «سانتا كلارا». ثم أصبح في عام 1987 سكرتيراً أول لشبيبة فرع الحزب الشيوعي الكوبي في «فيلا كلارا»، وبصفته تلك مثّل الحزب في عدة ملتقيات دولية لروابط الشباب الشيوعية. ثم أصبح رئيس الفرع نفسه، وأمضى عشرة أعوام في ذلك المنصب، قبل أن يترأس فرع الحزب في مقاطعة هولغين بجنوب الجزيرة لستة أعوام.

وحين كان كانيل لا يزال مسؤولاً إقليمياً في الحزب، انضم إلى لجنته المركزية على المستوى الوطني في عام 1991، ثم أصبح في عام 2003 أصغر عضو في مكتبه السياسي، أعلى الهيئات القيادية للحزب.

أما عن مساره في المناصب التنفيذية والسياسية، فقد تم تعيين كانيل، في 2009، وزيراً للتعليم العالي، ثم في 2012 نائباً لرئيس مجلس الدولة لقضايا التعليم. وبعد الانتخابات التشريعية في العام التالي تم اختياره نائباً أول لرئيس المجلس خلفاً لخوسيه رامون ماتشادو فينتورا، وبذلك أصبح الرجل الثاني في نظام الحكم بقيادة الرئيس راؤول كاسترو، والذي أعلن يومئذ أن ولايته الرئاسية التي بدأت في ذلك الوقت ستكون الأخيرة بالنسبة له، وأنه يتوجب اختيار رئيس جديد لكوبا في عام 2018 على أبعد تقدير. ومنذئذ بدأ يتضح جلياً أن كانيل هو الشخص المفضل لدى راؤول ليحل محله في قيادة البلاد.

وبالفعل فقد عقد البرلمان الكوبي، يوم الخميس الماضي، جلسة خاصة للتصويت على رئيس جديد للبلاد خلفاً لراؤول المنتهية ولايته، وكان كانيل المرشح الوحيد من قبل الحزب الشيوعي الكوبي الحاكم، الحزب الوحيد في كوبا. ووفقاً لما أعلنته رئيسة اللجنة الوطنية الانتخابية، ألينا بالسيرو، فقد انتخب النواب «دياز-كانيل»، رئيساً لمجلس الدولة ومجلس الوزراء، لولاية من 5 سنوات قابلة للتجديد، بـ603 أصوات من أصل 604، أي بنسبة 99.83% من الأصوات.

لكن كيف استطاع كانيل الوصول إلى قمة السلطة في بلد ظل يحكمه الأخوان كاسترو بقبضة حديدية؟ وهل يمكن أن يمثل وجوده رئيساً لكوبا تحولاً حقيقياً فيها نحو الانفتاح السياسي والاقتصادي؟

مهما يكن، فإن كوبا اليوم تبدو على مفترق طرق، فالأخوان كاسترو اللذان قضيا في الحكم نحو 60 عاماً، وأسسا نظاماً شيوعياً في جزيرة لا تبعد أكثر من 90 ميلاً عن البر الأميركي، لم يعودا في سدة السلطة، بل توفي فيدل في عام 2016، وقرر خلفه راؤول التنحي طواعية عن الحكم. وحتى وقت تعيينه نائباً أول لراؤول كاستر، كان ينظر إلى كانيل على أنه تكنوقراطي منظم ونشط وناجح، كما أنه سياسي يتمتع بعلاقات جيدة مع الكثيرين، وعلى أنه أحد الداعمين الأساسيين لسياسة التحرير الاقتصادي التي بدأ راؤول ينتهجها، وأنه لا يعارض مزيداً من الانفتاح وحرية الصحافة. لكن السر الأساسي وراء ظفره بخلافة راؤول هو حرصه الشديد على التواصل بشكل مستمر مع القواعد الشعبية للحزب، وعلى الفوز بثقة قادته. فقد كان يجول بدراجته في الشوارع وبين الأحياء، متحدثاً مع الناس ومستقصياً عن أحوالهم، مما أكسبه شعبية في الكثير من الأوساط. كما قام خلال خدمته العسكرية بتشكيل روابط قوية مع الأخوين كاسترو، وكان كثيراً ما يتم تكليفه بحمايتهما أمنياً. وقد فرض نفسه تدريجياً داخل الدائرة الضيقة لراؤول، متسلقاً في الظل مواقعَ المسؤولية ومراتب السلطة. وقد نُقل عن أحد المنفيين الكوبيين الذين عملوا سابقاً مع كانيل قوله: «إن مفتاح نجاحه هو توافقاته مع الطبقة الحاكمة»، وإن الأخوين كاسترو كانا «معجبين» به.

ولعل عاملاً آخر لعب دوراً مهماً في صيرورة السلطة إلى كانيل، ألا وهو عامل السن الذي أصبح يضغط على راؤول (87 سنة)، إذ فضّل الرجل، على ما يبدو، أن يغادر السلطة وهو لا يزال في وضع صحي يسمح له بفرض الترتيبات التي تناسبه. ولعل ذلك تحديداً ما يقلل من سقف التوقعات حول ما يمكن لكانيل فعله لإرساء القطيعة مع عهد كاسترو وثورته الشيوعية! ففي مارس الماضي تم إجراء انتخابات برلمانية كوبية جرت هندستها بعناية فائقة، بغية غربلة الأعضاء الجدد، في مرحلتي الترشيح والتفويز، على أساس الولاء المطلق لراؤول ولخط الثورة الذي أرساه مع شقيقه الراحل فيديل. ثم تم في السادس عشر من أبريل الجاري انتخاب أعضاء مجلس الدولة المنوط بهم اختيار رئيس جديد للبلاد (يصبح رئيساً للمجلس نفسه، ولمجلس الوزراء أيضاً). وفي يوم الخميس الماضي جرى عرض اسم كانيل على البرلمان، كمرشح وحيد تم التصويت عليه في اقتراع سري، ثم قام بتأدية اليمين الدستورية في اليوم نفسه. وفي كلتا المرحلتين حرص راؤول على أن يبدو الأمر كما لو أنه عملية انتقال ديمقراطي للسلطة! والحقيقة أن خطاب كانيل نفسه شدد على التمسك بخط الثورة وبالدور القيادي لراؤول في توجيه عملية إدارة الحكم. وأهم من ذلك فإن راؤول سيبقى على رأس الحزب الشيوعي الكوبي و«رجل كوبا القوي» حتى عام 2021، تاريخ انعقاد المؤتمر العام المقبل للحزب. والحزب هو الأداة الأكثر نفوذاً داخل منظومة الحكم الكوبية، إلى جانب الجيش الذي يقال إن راؤول وضع في كل مفاصله المهمة أشخاصاً يدينون له بالولاء التام.

لذلك لا يبدو أن كانيل يملك قوة كافية لإدخال إصلاحات جذرية وواسعة كي يصبح «غورباتشوف كوبا»، كما تتمنى واشنطن وحلفاؤها في أميركا اللاتينية. وكما قال أحد المحللين المختصين، فإن كانيل «ليس لديه لا دبابات و لا قوات مسلحة»، في إشارة إلى أن معظم قطاعات اقتصاد البلاد ما تزال في أيدي الجيش والحزب، وهما تقريباً خارج سلطته.