عبدالله ناصر العتيبي 

ظلّت العلاقات بين السعودية وأميركا طوال الأعوام الثمانين الماضية مضرب مثل في أدبيات العلاقات الدولية، ورسمت نموذجاً ناجحاً استطاع أن يتجاوز الكثير من الأزمات الإقليمية والدولية، ويقف بثبات في عالم دائم التغير والتحول.


وعلى رغم اختلاف نظامي الحكم بين البلدين، وعدم تطابق رؤى الشعبين حول الكثير من القيم الواجب الخضوع لها من أجل حياة مزدهرة وموت آمن، إلا أن قيادات البلدين المتعاقبة استطاعت أن تخلق نموذجاً فريداً من التعاون والتشارك والتكامل على امتداد سنوات هذه العلاقة الطويلة.

السعودية بالنسبة إلى أميركا ليست بريطانيا أو فرنسا، إذ لا مشتركات دينية أو عرقية أو ثقافية تحتويهما سوياً. وأميركا بالنسبة للسعودية ليست الكويت أو الإمارات أو مصر، إذ لا جيرة ولا دم واحد ولا تاريخ مشترك يربط البلدين معاً. ومع كل هذا الاختلاف والتباين تمكنت السعودية وأميركا خلال فترة تعارف قصيرة في ثلاثينات القرن الماضي من تكوين مشتركات عالمية متشابهة، وبناء منصات تواصل بينهما قل نظيرهما في العصر الحديث.

صحيح أن هذه العلاقة بين البلدين تضطرب أحياناً، وتمر بانعطافات حادة في أحايين أخرى، لكنها كانت كما «الفينيق»، تنبعث من جديد في شكل أقوى وبروح أكثر حداثة.

خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما تعرضت العلاقات بين البلدين إلى تحديات كبيرة، وكانت في كل تحدٍ تستجمع تفاصيلها وتعيد تكوين نفسها. مرة خضوعاً للثقة المشتركة التي تكونت عبر العقود بين الشعبين. ومرة اتساقاً مع الحالة النفسية لهذه العلاقة التي كانت ضد التغيير الفجائي، ودونما تدخل من عوامل أخرى مساعدة.

كان أوباما يحمل لمنطقة الشرق الأوسط نظرة مغايرة لمن سبقوه من رؤساء أميركا الذين جاءوا بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت نظرته هذه تتعارض كلياً مع رؤية المملكة لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين دول الإقليم.

السعودية لا تؤمن بمسألة تقاسم النفوذ في المنطقة، وتدرك تمام الإدراك أن لكل دولة في الشرق الأوسط الحق في أن تستقل بسياساتها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، على ألا يكون في هذه السياسات والعلاقات الدولية ما يضر بأمن المملكة أو دول الإقليم الأخرى. وفي المقابل، كان أوباما يحلم بأن يتوزع العالم الإسلامي ما بين النفوذ السعودي والنفوذ الإيراني، ليستطيع التفاوض من جهة على المصالح الأميركية في المنطقة من خلال استغلال حالة الانشغال السعودي والإيراني بإبقاء حالة التوازن قائمة في ما بينهما، ومن جهة أخرى الذهاب بعيداً إلى الشرق الأقصى لتحقيق مصالح أميركية معلقة هناك منذ عقود!

هذا التباين الطارئ في العلاقة ما بين البلدين، أحدث شرخاً في الجدار الذي بنياه سوياً منذ زمن بعيد، لكنه ظل في كل الحالات شرخاً غير مهدد لسقوط الجدار. صبرت السعودية، وتحملت من جانب واحد، وحاولت أن تخفف من تأثير هذا التصور المغلوط على المنطقة، الذي كان من نتيجته كما يعرف الجميع اتفاقاً نووياً معطوباً مع إيران وفوضى أمنية عبثية في سورية واليمن، وارتهان ضد التاريخ والجغرافيا في بعض أجزاء العالم العربي للقرار الفارسي.

رحل أوباما وجاء دونالد ترامب. جاء الرئيس الجمهوري الجديد ليعيد الأمور إلى ما كانت عليه. جاء الرجل الذي يعرف جيداً أنه على أميركا العميقة أن تحمي تحالفاتها التاريخية الموثوقة من أجل مصالحها أولاً، ومن أجل عالم أكثر سلاماً وأمناً في المقام الثاني.

رحل أوباما وأخذ معه عقيدته إلى حيث المجهول، وجاء ترامب الجمهوري الذي يسير على خطى كبار الساسة الأميركيين السابقين. يضع خطوته في إثر خطوات من سبقوه من الرؤساء الكبار الأصدقاء للمملكة، لكنه (ولا شيء يكتمل) يتعثر أحياناً في وحل لغته غير المنضبطة، ويقع أحيانا في شراك عقليته التجارية المحضة، ويضيع أحيانا في منطقة الظلال الرمادي التي تفصل بين ما يجب أن يكون عليه الحديث الداخلي للشعب الأميركي، وبين ما ينبغي أن تحمله الرسائل الموجهة إلى مراكز القوى في العالم، وبخاصة إلى الحلفاء التاريخيين والاستراتيجيين لبلده.

قبل يومين قال ترامب في مؤتمر صحافي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أن على الدول الغنية في منطقة الشرق الأوسط أن تتحمل فواتير الحماية الأميركية لها، وأن التريليونات الضخمة التي دفعتها أميركا في المنطقة خلال الـ18 سنة الماضية لا بد أن تعود ليجدد بها الأميركيون بنيتهم التحتية المتهالكة.

كان من الواضح أن الحديث موجه للشعب الأميركي لتحقيق مكاسب سياسية آنية، تساعد الرئيس في مواجهة الحملات الإعلامية والسياسية المتلاحقة ضده، لكن على الطرف الآخر، هناك دول في المنطقة تريد أن تتبين بالفعل ما إذا كان هذا الحديث موجهاً لها أو لغيرها.

السعودية، كما أظن، لا تؤمن بوجود حماية أميركية لها في المنطقة، وتعتبر شراء الأسلحة من أميركا عملية تجارية محضة مدفوعة الثمن، ويدرك السعوديون أن موقف ترامب من الملف النووي الإيراني هو موقف أميركي من الدرجة الأولى وليس حماية لشعوب المنطقة، إذ إن إيران، أو محور الشر كما تسميها أميركا، لا تترك شاردة سياسية إلا وتدعو فيه لإسقاط أميركا، ولا تفوّت واردة إعلامية إلا وتدعو فيها بالموت على أميركا والأميركيين.

هذا أولاً... أما ثانياً فالسعودية قادرة على هزيمة إيران متى ما نشبت الحرب بينهما، إذ لا مقارنة بين الجيشين السعودي والإيراني. وإذا ما رفضت أميركا في المستقبل بيع السلاح للسعودية بحجة أن ذلك يدخل تحت أدبيات الحماية، فسيذهب السعوديون للسوق العالمي المفتوح للجميع، وأظن أن الرد السعودي حينها سيكون مشابهاً لرد الوزير عادل الجبير على بعض الدوائر الألمانية قبل أشهر عندما ترددت في بيع أسلحة بعينها للسعودية.

من عليه دفع فواتير الحماية لأميركا هو المعني فعلاً بهذه الحماية مثل إسرائيل التي تحظى بعناية أميركية خاصة، أو قطر التي تضم قاعدة العديد الشهيرة التي جعلت القطريين في السنوات الأخيرة يظنون أنهم في منأى عن المحاسبة والعقاب مهما ارتكبوا من أعمال إرهابية وتخريبية في المنطقة.

أما الوجود الأميركي في سورية فهو مسألة لم تكن تريدها السعودية في البدء، إذ إن التصور السعودي العام كان يقوم على أن الشعب السوري هو الوحيد القادر على إسقاط منظومة الشر الأسدية، لكن الوضع تغير مع تسهيل النظام الأسدي دخول الجماعات الإرهابية إلى سورية لإحداث انقلاب عالمي في مفهوم الثورة السورية، وتمويل النظام القطري لهذه الجماعات، ربما بالتنسيق مع نظام بشار، لتبقى قادرة على أداء دورها الذي استجلبت من أجله، ثم دخول الإيرانيين وحزب الله للمشاركة في هذا العرس العالمي، وأخيراً وصول الأميركيون المتأخر جداً للمنطقة!

أميركا موجودة الآن في سورية لأنها تدافع عن مصالحها هناك، وتوازن الوجود الروسي كي لا يذهب في المستقبل وحيداً بشرق البحر الأبيض المتوسط! وإذا كان ترامب جاداً في مسألة المطالبة بتمويل الوجود الأميركي في سورية، فعليه أولاً خصم مستحقات المصلحة في موازنة الوجود الروسي أولاً، ثم فرض غرامات مالية على العابثين بالأمن هناك مثل إيران و»حزب الله» والنظام السوري والنظام القطري، ثم تحويل الفاتورة الأخيرة لتركيا، الحليفة الرئيسية التي يعنيها ما يحصل على الأرض السورية.

صار لزاماً على صديقنا دونالد ترامب أن يعرف إلى من يوجه معزوفته الحزينة الدائمة، وكيف يفصلها عن الداخل الأميركي، لنبقى ويبقى حلفاء استراتيجيون إلى الأبد.