مرح البقاعي

في وثيقة رسمية صدرت عن الخارجية الأميركية بتاريخ 17 آذار (مارس) 2016، أفادت الجهات المسؤولة في الوزارة بأن إيران استلمت من الولايات المتحدة مبلغاً قدره 1.7 بليون دولار أميركي كجزء من مترتبات الصفقة النووية لدول 5+1، وأن هذه الأموال أضحت، قانونياً، من حق إيران إثر اتفاق فيينا النووي، وقد كانت أموالاً مدفوعة للولايات المتحدة ثمناً لتجهيزات عسكرية طلبتها إيران في 1979، ولكن بعد اندلاع ثورة الخميني جُمدت هذه الصفقة والأموال المدفوعة وامتنعت واشنطن عن تصدير أية معدات عسكرية لإيران منذ ذلك الوقت.

في آب (أغسطس) من العام نفسه أورد العديد من وكالات الأنباء الأميركية خبراً مفاده بأن 400 مليون دولار من المبلغ الكامل سُلم نقدياً لطهران حيث حملت طائرة شحن (لا تحمل اسماً لشركة نقل بعينها) الأموال إليها من واشنطن بعد أن أُفرج عن ثلاثة أسرى أميركيين كانوا محتجزين في إيران. هذا ولم يُعرف كيف سُلِّمت إيران بقية المبلغ المترتب الذي يعادل 1.3 بليون دولار في ظل عزلتها المصرفية، إلا أنه من المرجح أن الأموال وصلت إليها نقداً وبطرق مشابهة. وهذا ما حصل معظمه في عهد أوباما الميمون خلال سعيه إلى تمكين الاتفاق النووي بكل الوسائل الممكنة، بالتوافق مع وزير خارجيته في ذلك الوقت جون كيري. 

أما مجمل الأموال الإيرانية المجمدة في العالم فتبلغ 100 بليون دولار بما فيها الأموال المجمدة في البنوك الأميركية. فكيف وأين صرفت الأموال المفرج عنها، والتي من المفترض أن تذهب إلى مشاريع التنمية والتطوير الاقتصادي وتحديث البنية التحتية المتهاوية في البلاد؟

في الشهر الأول من 2016 ظهر جون كيري على شاشة «سي أن بي سي» الأميركية ليتحدث بوضوح عن الأموال الإيرانية المفرج عنها فقال: «بإمكان إيران أن تصرف أموالها بالطريقة التي تريدها»! وأضاف: «أعتقد أن بعض هذه الأموال سينتهي في يد الحرس الثوري الإيراني أو مجموعات أمنية أخرى معظمها يرعى الإرهاب».

وفي نظرة معمّقة إلى الخريطة الجيوسياسية في العراق ولبنان، والميدانية في سورية واليمن، يمكننا أن نجزم أن معظم الأموال المسترجعة أنفقتها طهران على ميليشياتها الطائفية العابرة للحدود، وبعضها ما زال يقاتل في سورية واليمن (حزب الله ومشتقاته والحوثيون وأتباعهم)، وبعضها الآخر خلع البذلة العسكرية وارتدى المدنية ليتحوّل إلى مشارك في العملية السياسية بعد أن وصل وقت جني ثمرة الدم لانتهاكات ميليشياته (الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان) وذلك على سبيل المثال لا الحصر.

من نافلة القول إن خطر إيران على جيرانها لا يكمن في سوء توظيفها للأموال المفرج عنها وحسب، بل يتعداه إلى طموحها التسلطي العابر للحدود، وزعزعتها لاستقرار جيرانها وللاستقرار والأمن الإقليميين، ودعمها للفوضى والفرز الطائفي في المنطقة حيث ميليشياتها ذات الفكر العقائدي العنصري جزء لا يتجزأ منها، بل هي الدينامو والمحرض الحقيقي عليها. وليس التطهير الطائفي على شكل تهجير قسري جرى في عدة مدن وبلدات سورية، لا سيما في الغوطة وريف دمشق، ودخول ولايتي مدينة دوما بعد ساعات من خروج أهلها الأصليين هرباً من موت محقق اختناقاً بكيماوي الأسد وحلفائه، إلا رسالة واضحة لحجم الطموح التوسعي ذي النزعة الطائفية الذي يبشّر به حكم الملالي في إيران منذ عقود خلت.

وإذا كان الهدف الحقيقي من اتفاق فيينا النووي رفع العقوبات الدولية عن إيران مقابل تخلّيها التام عن برنامج التخصيب النووي وليس تجميد هذا البرنامج وحسب، فإن الخروقات الإيرانية للاتفاق، وإطلاقها العديد من التجارب لصواريخها الباليستية بعد التوقيع عليه، وكان آخرها في شباط (فبراير) 2017، دعت الولايات المتحدة إلى طلب عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن لبحث تلك الخروفات والتحدي الصلف للمجتمع الدولي والإخلال بالتزاماتها القانونية.

في 12 أيار (مايو) المقبل تنتهي المدّة المقررة في الكونغرس الأميركي للنظر في الاتفاق وفي ما إذا تمكن الاتحاد الأوروبي من إدخال التعديلات التي طالبت واشنطن بها من أجل ضمان عدم انسحابها من الاتفاق، وهي الفترة الأخيرة لمراجعته، بحسب ما قرّر ترامب. ومن المعروف أن هذه الفترة تُجدّد كل 90 يوماً حيث يشهد بموجبها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمدى التزام إيران بشروط الاتفاقية المبرمة وفقاً لما يدعى اختصاراً INARA وترجمته بالعربية «قانون مراجعة الاتفاق النووي الإيراني».

أما ترامب الذي كان قد أعلن في حملته الانتخابية أنه «سيمزق هذا الاتفاق حال وصوله إلى سدة الحكم في البيت الأبيض»، ولم يتوقف بعد تنصيبه رئيساً عن مهاجمة هذا الاتفاق الذي وصفه حيناً بأنه «كارثة» وحيناً آخر بأنه «أسوأ صفقة تم التفاوض عليها»، وطوراً بأنه اتفاق سيؤدي إلى «هولوكوست نووي»، فيبدو اليوم عازماً على الخروج من تلك الصفقة وتطبيق عقوبات صارمة على إيران حال تخلّيه عن الاتفاقية. وقد صرّح أخيراً بما مفاده «إذا لم يتمكن الكونغرس وحلفاء الولايات المتحدة من تقديم نسخة محسّنة من اتفاق فيينا فإن الولايات المتحدة ستنسحب من الاتفاقية». أما هدفه المباشر فأن تمتنع إيران عن تخصيب اليورانيوم وإلى الأبد، وإلا فالمواجهة العسكرية مع طهران تدق نواقيسها عالياً في واشنطن!

* كاتبة سورية