يــاســيــن طــه حــافــظ

 الخبر المهم والمثير هو، عموما، الخبر السيئ، الفاجع، الكارثي والذي يقول : خلع الرئيس الفلاني، انتحار الكاتب...، اعتقال العشرات، حريق. هجوم، فضائح سياسية أو جنسية .. السؤال الآن: لماذا يرتاح المشاهدون والقراء لذلك؟ هل هو توق لاصلاح العالم، المجتمع، المدينة، البلد؟ أم هو إرضاء للذات تريد ان تنتقم، تريد عنفاً، تريد إسقاطاً، صدْعاً في المستقرات؟


المعارك الضارية، سياسية أو مذهبية أو عنصرية، معارك هامة من دون شك . لكن التعيش الإعلامي عليها أو المتاجرة بها، أولاً لا يحل المشكلة وثانياً يكوم التناحر ويضيف المزيد للطوفان الكاسح من الأخبار السيئة في العالم. قد يكون هذا ديدن الإعلام التجاري، لكن الإعلام الرسمي ملزم بأخلاقيات آنية وبأفق مستقبلي. وعليه هنا أن يتعلم مهارات الإفادة من هكذا خبر لا تركيز عيوب وسيئات أخرى تضاف إلى ما عندنا وهو كثير، وفي وقت نسعى فيه لا راحة الناس والعمل على التبشير بما يفرحهم.. في تأكيد المزعجات وحوادث الموت والحرائق تدمير نفسي. وهو زرع سيئ في الحاضر يثمر سوءاً في المستقبل. مفترض هنا نشر هكذا أخبار بشروط الضرورة والجدوى ولا يكون هواية وتسابقاً للسيئات. التمييز هنا لازم بين الحركات والجماعات الثقافية "الأصيلة" وبين المصالح التجارية التسويقية. لضرورة الخبر حكم ضمن السياسة العامة لمؤسسة النشر. وليست كل أخبار الثقافة ثقافية القصد فقد نعمل لما وراء الثقافة من فكر يراد تسويقه. وهذا التسويق يمهد لاحداث قادمة، وفعلها هنا لا يختلف جوهرياً عن فعل الشائعات والأخبار الضد.
الخبر السيئ المضاف هو تسديد النار لأنفسنا. ثم أن التشابه في الأخبار وتكرارها إقرار بفشل إعلامي، شأنه شأن أي محاكاة. هذا التشابه أو المحاكاة غير مقبول لا في نوع الخبر ولا في البرنامج ولا حركات المذيعين والقائهم .. المهم هو أن نعلم بأن الأخبار ليست معلومات تلقى في الريح وأن الإلقاء فن شخصي وصناعة البرنامج ثقافة !
الأخبار تغير الفضاء المحيط بها، فلها آثار اجتماعية أوسع مما نظن. وأخطر هذه الآثار أن نشعر الناس بالقلق أو باليأس. عدم الاطمئنان يربك المجتمع والمشاريع ويشكك بالمستقبل. هذا ضرر كبير واسع، يبدأ من إيذاء الإنسان وسلامه اليومي إلى إرباك الاقتصاد وحركة السوق. ولو جرى تحليل للأخبار لرأينا كيف يتغير فهمنا 
لها.
الفضائيات تهتم بالبعد المكاني، بمدى الفضاء الذي يتحرك فيه الخبر، وتهتم بالتركيبة الاجتماعية التي يبث الخبر أساساً لها. ثمة من يستطرف الخبر وثمة من يسمعه وينساه وثمة من يعتمده في مشاريع المستقبل! 
ما يعقد الخبر بالنسبة لأية مؤسسة صحفية هو انتقال الخبر من القومي المحلي إلى العالمي الكوسموبوليتي.
فمن بين هذه الأخبار نحتاج إلى الخبر الذي يهم مجتمع الدولة ويهم العالم، وهذا بدوره يحتاج إلى عقل ثقافي متخصص يعمل على وضع البرامج واتجاهات عملها، وهذه مهمة تزداد صعوبتها بتزايد عدد الفضائيات الاخبارية والصحف الممولة والموجهة إلى أو الصادرة في، الشرق الأوسط وافريقيا بوصف هذا المناطق هدفاً "للتثقيف" .. في زمن الانفتاح لا احد يستطيع منع الناس مما يريدون سماعه أو مشاهدته. ولكن الجانب المتلقي هو شريك أول في رسم البرامج. الهويات الإعلامية للاخبار واضحة، وأي مبتدي في الإعلام، يستطيع أن يميز نمط الأخبار والتعليقات من إذاعة موسكو أو صوت أمريكا وبين الفضائية الروسية والـC.N.N الأمريكية. كما أن طبيعة الأخبار الصينية واضحة .. وبعد يومين مشاهدة أو ثلاثة، يمكن للمشاهد أن يحس بالسياسة الألمانية من فضائيتهم. بالنسبة لهم هذه نجاحات. بقي أن يعرف المجتمع المستهلك كيف هو أيضاً ينجح في عمله، كيف نميز البرامج التي تصنع تشويشاً ثقافياً، وتشويشاً سياسياً. المجتمع المستهلك لا يستطيع منعها، ذلك عملهم. فعلينا أن نعمل ما يصد الضرر، ما يصحح أو يعوض، ليس أكثر. المنع سياسة فاشلة أولاً وكريهة ثانياً ويمكن التغلب عليها بأساليب شتى.


ما ينشر مرتبط بمصالح العامل على نشره، ولذلك، المحاكاة مخجلة ودليل سذاجة إعلامية، الأهداف تختلف والذائقة الاجتماعية تختلف ومدى المعرفة بالاحتياجات الاجتماعية ونوعها يختلف. المعلن، مؤسسة أو تاجراً، يدرس مسألتين : الجمهور الخاص الذي يوجه له البث ومدى اهتمامه بالمادة المعلن عنها والمدى العالمي للبث – أي سعة الفضاء. 


التمويل مهم، والاعلان صعب الاستغناء عنه لديمومة العمل. التفاهمات على الإعلان لا تتم عشوائياً، ولكن مع من لبضاعته مستهلكون في بلد الفضائية أو مدى بثها. ثمة من يعلن للعراق والخليج لكن بضاعته لا تعني شيئاً في أمريكا مثلاً، المعلن ذكي ويعرف احتياجات عمله واين يعلن. ولأنه تاجر، فلا يعنيه التوجه السياسي أو الفكري للفضائية أو الصحيفة التي يعلن فيها. هو يريد رواجاً فليكن الخصم في خدمته! انتبهت في الأيام الأخيرة أن شركة البان إيرانية تعلن في "الشرقية". الشركة ادركت المدى الشعبي للقناة فأرادت الاستفادة من الجمهور الذي يتابعها، التجارة تجارة وبالنسبة للطرفين! لا أظن إعلامياً محترفاً ضد هذا. التمويل مطلوب دائماً، لكن يجب الانتباه بأن الافراط في ترضية الجهات الممولة هو سير في طريق الفشل، وإلا، فثمة حكومات "تساعد" وكالات الأنباء ولها فضائيات تخدم برامجها ومصالحها، وهذا معلوم معروف لسنا بصدد مناقشته. لكن مهمة العاملين فيها تتطلب القدرة المستمرة على التشويق والارضاء. فالرسمي عادة مملّ وقد يكون منفِّراً، في حال الناس المستائين. ولهذا أثر سيئ في اتجاهين، الأول : الهروب إلى فضائيات مخالفة في المنهج أو إلى الانترنت. والاتجاه الثاني أننا وفرنا سبباً لابعاده عن الوطن وناسه ومتاعبه ومباهجه إلى ما هو الذ واكثر ابهاجاً! بهذا نكون دمرنا جهود فضائيتنا، وبسبب فرط الارضاء والمبالغات وإهمال احتياجات الناس. 
إن الاستهانة بالناس، استهانة بقصدية العمل. احترام الناس يشترط احترام مستوى ونوع المادة الاعلامية المقدمة لهم، النظر لهم من أعلى إلى أدنى خطأ فادح. الإعلامي الناجح هو من يتصور نفسه يخاطب من هو ملمّ، بل متخصص، فيقدم عند ذاك مادة سليمة علمياً. أن يكون جمهوره بسيطاً، إذاً عليه أن يقدم مادة سليمة علمياً بتبسيط محترم يحافظ على سلامتها العلمية. هكذا يكون العمل الجاد لا أن ننظر للناس جهالاً ونحن نعلّمهم. الحال الأخيرة تهبط بعملنا ما دمنا نزلنا إلى مستوى أدنى أردناه من غير انتباه لثقافة العصر. 
أما الدعوة لحرية مطلقة وخلق مساحة إعلامية يمكن فيها سماع جميع الأفكار وجميع المستويات، فهي دعوة غير عملية، قد تكون فيها محبة للحرية لكن فيها إضراراً في العمل. الواقع لا يسمح بأمنية من هذا النوع