سليم نصار

 «أتَعلم يا اسحق أنني لم أنم طوال الليل الماضي، لأن التفكير بمصير إسرائيل سرق النوم من أجفاني، لماذا؟ لأن الدول العربية المعادية لوطننا الجديد تهددنا وتطوقنا من كل الجوانب!».


هذا ما كتبه رئيس جمهورية اسرائيل اسحق نافون في مذكراته أثناء زيارته لديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء في مكتبه آخر يوم من سنة 1957.

وخلال ذلك اللقاء أعرب بن غوريون عن رغبته في تحصين إسرائيل، وتأمين الوقاية اللازمة لسلامة شعبها. ولما استوضحه نافون عن أسباب قلقه، رفع صاحب الشعر الأبيض الكثيف عصاه ليشير إلى مكان معين على خريطة الشرق الأوسط المعلقة على الجدار، ويقول: «هذه النقطة الصغيرة جداً تمثل اسرائيل. ومن شدة خوفي على مصيرها أجريت محاولات متواصلة مع واشنطن وموسكو بغرض إقامة حلف دفاعي مشترك معهما. ولما قوبل اقتراحي بالرفض من قبل الدولتين الكبيرتين، لجأت إلى فكرة امتلاك قنبلة ذرية تكون بمثابة السلاح الردعي الوحيد الذي يضمن حدود اسرائيل. ولقد دفعني إلى هذا التفكير تصريح جمال عبدالناصر الذي أعلن فيه أن وجود اسرائيل في المنطقة هو وجود عابر وموقت ينتظر نهايته، تماماً مثلما انتظرَ الصليبيون مئتي سنة قبل أن يهزمهم صلاح الدين الأيوبي، ويطردهم من المنطقة».

ثم صمت بن غوريون، وقال مخاطباً زائره: يجب أن نفكر بإيجاد ضمانة تمنع عنا المصير الذي لقيه الصليبيون!

بوحي من هذه القناعة أرسل بن غوريون الى باريس رئيس الأركان موشيه دايان ومدير مكتبه شيمون بيريز. وبعد مفاوضات شاقة، قبلت الحكومة الفرنسية بالإشراف الكامل على عملية انتاج القنبلة الذرية. وبسبب الخوف من عرقلة المشروع بواسطة الضغوط الأميركية، ادّعت اسرائيل أن المصنع، الذي شيّد في «ديمونا»، ليس أكثر من مجمع يُستَعمل لريّ الأراضي الزراعية. ولما تأكدت واشنطن من صحة معلوماتها، كانت اسرائيل قد قطعت شوطاً كبيراً في مهمة التضليل والتمويه بواسطة عملائها الكثر في الكونغرس ووسائل الإعلام.

منذ تحقيق البرنامج النووي الإسرائيلي، الذي شارك فيه عدد من علماء اليهود، اتخذت الدولة العبرية سياسة التعتيم والادعاء بأنها لا تملك سلاحاً ذرياً. وعليه، فهي تطالب الدول العربية بضرورة التقيّد بشروط الوكالة الدولية للطاقة التي تراقب مكونات هذا السلاح المدمر.

ولما تأكد مناحيم بيغن أن صدام حسين ماضٍ بانتاج مشروع «تموز»، أمر قيادة الجيش بإرسال سرب من الطائرات الحربية لتدميره. وكان ذلك بعد ظهر يوم السابع من حزيران (يونيو) 1981.

بعد انقضاء 37 سنة تقريباً على ذلك الاعتداء، يسعى بنيامين نتانياهو إلى تكرار ما فعله سلفه مناحيم بيغن وإنما في ايران هذه المرة. مع فارق أساسي مفاده أن بيغن لم يبلغ الرئيس الاميركي مسبقاً بقرار ضرب المفاعل العراقي، في حين يطلب نتنياهو من دونالد ترامب الوقوف إلى جانبه في حربه ضد ايران. وقد استعان في مؤتمره الصحافي الأخير بمجموعة وثائق إدّعى أن ملفاتها الضخمة تشير إلى تطوير أسلحة نووية وإنتاجها في خمسة مواقع سرية.

ولقد اختار رئيس الحكومة الاسرائيلية عودة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من واشنطن لكي يدحض الحجج التي قدمها الضيف الفرنسي لسيد البيت الأبيض في محاولة أخيرة لثنيه عن إلغاء الاتفاق النووي مع ايران. أي الاتفاق الذي وقعته مجموعة الخمسة زائد واحد سنة 2015.

وزعم نتانياهو أن طهران خالفت نصوص الاتفاق، وباشرت في تنفيذ مشروع شامل لتصميم وتصنيع أسلحة نووية يحمل إسم «آماد». وتمنى في نهاية عرضه الاستفزازي إلغاء الاتفاق يوم 12 الجاري (أيار - مايو)، أي بعد أسبوع. وحض ترامب على تغيير المسار الذي رسمه سلفه باراك أوباما بالتعاون مع بعض الدول الأوروبية.

في الوقت ذاته، أعلنت فرنسا وبريطانيا وألمانيا عن تمسكها بالاتفاق، كونه يمثل الجدار الواقي أمام خطر امتلاك إيران السلاح النووي.

وحرصاً على تفادي حملات الاجتهاد بهذا الشأن، أبلغ الرئيس حسن روحاني نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون في اتصال هاتفي أن الاتفاق غير قابل للتفاوض من جديد، وأن مستقبله يكون بعد سنة 2025. أي عندما تنتهي مدته، ويصبح مصيره وقفاً على القرارات الدولية.

وختم الرئيس ماكرون مكالمته الهاتفية بضرورة توسيع مناقشات هذه المسألة لتشمل برامج الصواريخ البالستية، وأنشطة ايران النووية بعد سنة 2025، والأزمات الإقليمية التي تشغل الشرق الأوسط، مثل حرب اليمن وموضوع سورية، وسلاح «حزب الله» ودور «حماس».

الصحف الفرنسية رحبت بمقترحات ماكرون لاعتقادها بأن إيران تحتاج إلى الاتفاق بسبب الضمانات الاقتصادية التي يوفرها. وتأتي في مقدم هذه الضمانات المصالح التجارية مع دول العالم، وتأهيل الاقتصاد الغارق في أزمات خانقة، وضبط الخلافات القائمة بين المحافظين والإصلاحيين.

علي أكبر صالحي، رئيس منظمة الطاقة الذرية، سخر من مقاطعة الولايات المتحدة، والتهديد بفرض عقوبات إضافية على طهران. وقال في مصارحة علنية إن بلاده عاشت ثلاثين سنة تحت نظام العقوبات، ولكنها نجحت في تطوير مشروع نووي متقدم. وبفضل قواتها المسلحة تحولت الى دولة إقليمية كبرى، وإلى عامل أساسي في المشاركة بالنزاعات القائمة في الشرق الأوسط.

المرشد الأعلى علي خامنئي أغلق باب الحوار أمام كل المفاوضات الرامية إلى مراقبة برنامج الصواريخ البالستية، ودعا ترامب- من دون أن يسمّيه - إلى التعقل، وعدم الانجرار وراء اسرائيل التي تدفع الولايات المتحدة إلى الهاوية.

على ضوء هذه التطورات، يرتفع السؤال الأساسي المتعلق بقرار الرئيس ترامب، ما إذا كان سيلغي آخر الأسبوع المقبل الاتفاق النووي مع إيران أم سيبقيه.

المسؤولون في طهران مقتنعون بأن إدارة ترامب- بمن فيها مستشار الأمن القومي جون بولتون ووزير الخارجية مايك بومبيو- ميّالة الى إلغاء الاتفاق.

والسبب أن هذا الاتفاق الذي أبرم في عهد باراك اوباما تحوّل الى عقبة أمام إقناع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون بالتخلي عن برنامجه النووي.

ويرى مستشارو ترامب أن الاتفاق سمح لإيران بالاحتفاظ ببرنامجها النووي، ومكّنها من استئناف عملية تخصيب اليورانيوم بعد عشر سنوات على توقيعه (صيف 2015). وهذا معناه أن كوريا الشمالية ستطالب بالمعاملة ذاتها، الأمر الذي يحول دون نزع السلاح النووي من شبه الجزيرة الكورية.

خلال زيارته أستراليا هذا الأسبوع، سئل الرئيس الفرنسي ماكرون عن طبيعة القرار الذي يحتمل أن يتخذه صديقه الرئيس الأميركي في 12 الجاري!

وكان جوابه مرتبطاً بمعلوماته حول رفض الحرب من قبل جميع القوى في المنطقة. ثم زاد: «في هذه الحال علينا التحضير لمفاوضات موسعة، بينها ما يتعلق بالنشاطات النووية بعد سنة 2025، والسيطرة على استخدام الصواريخ الباليستية. ثم اختصر الموضوع الأهم الذي حصره الرئيس الفرنسي باحتواء نشاطات ايران في العراق وسورية واليمن ولبنان.

وعلق المرشد الإيراني علي خامنئي على كلام ماكرون بإعلان رفضه التفاوض حول دور بلاده الإقليمي وبرنامج الصواريخ البالستية.

على ضوء هذه المتعارضات، يصعب على المراقبين استكشاف حقيقة القرار الذي سيتخذه رئيس حشر نفسه في زاوية ضيقة لم يبقَ له فيها سوى خيار الانسحاب من الاتفاق حفاظاً على سمعته، وعلى دور بلاده في منطقة الشرق الأوسط.

وربما يكتشف المشككون في كلام سارة ساندرز، الناطقة باسم البيت الأبيض، بعض الضوء السياسي الذي اختصرته في مؤتمرها الصحافي الأخير بهذه العبارات: «إن الاتفاق النووي أبرم بناء على إدعاءات كاذبة تماماً... وعلى أمور لم تكن دقيقة... لا سيما أن القدرات النووية الإيرانية كانت أكثر تقدماً وتطوراً بكثير مما أشار إليه المفاوض محمد جواد ظريف.»

وبانتظار ما سيفعله ترامب يوم السبت المقبل ترتفع صيحات الحرب والتوتر في منطقة يبحث سكانها عن عود ثقاب!