عبد الرحمن الحبيب

 يوم الأحد المقبل سيُعلن الموقف الأمريكي من الاتفاقية النووية (خمسة زائد واحد) مع إيران إما بالانسحاب منها، أو البقاء فيها مع بعض العقوبات، أو الاستمرار عليها وإنهاء العقوبات المخففة. الخيار الأول هو الأكثر ترجيحاً بينما الأخير مستبعد، فيما الخيار الثاني الوسطى محتمل لأنه سيحافظ على تماسك التحالف الغربي تجاه الاتفاقية، وفي نفس الوقت يفقدها قيمتها الفعلية.

يذكر ريتشارد نيفيو (عضو سابق بفريق المفاوضين الأمريكيين): قد لا تنسحب الولايات المتحدة بالضرورة من الاتفاقية، لكنها بإبقائها على العقوبات ستسحب عنصرًا رئيسيًا فيها وستخلق ضغوطًا على إيران التي ربما تعود لاستئناف برنامجها النووي وتشغيل عشرات الآلاف من أجهزة الطرد المركزي. في هذه الحالة، يمكن للاتفاقية أن تعيش من الناحية النظرية، لكنها خالية من المعنى والقيمة.

وتتمثل العقوبات الأمريكية الحالية (المخففة بموجب الاتفاقية) بوقف التعامل مع الجهات التي تُجري معاملات مع البنوك الإيرانية، ما لم تخفض الدول التي توجد بها تلك الجهات مشترياتها من النفط الإيراني بهامش كبير على مدار فترة 180 يومًا السابقة. فلا يمكن الشراء المفتوح بالمطلق للنفط أو الغاز الإيراني في حال الرغبة بمواصلة التعامل مع البنوك الأمريكية. ولا تزال كثير من كبرى الشركات العالمية تتجنب التعامل مع إيران خشية العقوبات الأمريكية وتنتظر رفع العقوبات بالكامل.

فإذا لم ترفع هذه العقوبات ستحتاج شركات النفط والغاز في العالم إلى اتخاذ قرار صعب بشأن ما إذا كانت ستستمر في شراء النفط الإيراني، وإذا استمرت فما مقدار ما تشتريه كي تتجنب العقوبات الأمريكية. لذا فإن العديد من الشركات والبنوك العالمية تُحجم عن القيام بأعمال تجارية في إيران، خشية العقوبات الأمريكية. ومن هنا، قد تستخدم إيران أسلوب ما يطلق عليه «الملاذات الآمنة» لخرق هذه العقوبات.

إذن، في هذه الحالة من الخروقات المتبادلة، فحتى لو لم تنسحب أمريكا من الاتفاقية فهي تعني عملياً إخلاء الاتفاقية من مضمونها. ومن هنا قال روحاني وفقاً لما نشرته الرئاسة الإيرانية عبر موقعها الرسمي، إن التعليقات السلبية التي تصدر عن الإدارة الأمريكية تثير «مخاوف دول ومؤسسات عدة حيال علاقاتها مع إيران.. حتى لو أعلنت أمريكا في 12 مايو المقبل عن بقائها في الاتفاق النووي واستمرت بالتصرف بنفس الطريقة التي اتبعتها خلال السنتين الماضيتين، سيكون الأمر غير مقبول» لإيران.

لكن النظام الإيراني، حتى الآن، لم يستثمر المنافع الاقتصادية الناتجة عن تخفيف العقوبات عليه بموجب الاتفاق النووي لكي يندمج مع المجتمع الدولي، بل ظل رهينة لعقيدته بتصدير الثورة الخمينية وتدخلاته الخارجية مستنزف الموارد الاقتصادية من تخفيف العقوبات، بدلاً من تركيزها على حل أزماته الداخلية، وبدلاً من أن يستثمر تحسن علاقاته الدولية بتحسين علاقاته الإقليمية، ركز على برامجه العسكرية الخارجية واستمر في إثارة الاضطرابات بالمنطقة آخرها دعمه للبوليساريو جنوب غرب المغرب..

في المرحلة السابقة التي امتدت 15 سنة منذ الغزو الأمريكي للعراق حتى 2017 حدثت تغيرات في توازن القوى بالشرق الأوسط استفادت منها إيران.. فقد تخلصت من خصميها من الشرق (طالبان أفغانستان) ومن الغرب ( نظام صدام حسين) فمدت نفوذها داخل العراق.. ثم بعد ما سمي الربيع العربي، امتد نفوذها لسوريا وزاد تحالفها مع روسيا ليكتمل «طريق الحرير» لشرق المتوسط مع نفوذها في لبنان عبر وكيلها «حزب الله» المسيطر العسكري على القرار اللبناني. لم تكتف إيران بذلك بل وسعت تمددها عبر الحوثيين في اليمن.. وفي الأخير، نالت إيران الشرعية الدولية بتوقيع الاتفاق النووي. يمكن تخليص أهم ما جنته إيران في تلك المرحلة السابقة بأربعة مظاهر: تمدد تدخلها في دول المنطقة، زيادة تحالفها مع روسيا، تخفيف التوتر مع أمريكا وتقارب مع غرب أوروبا..

لكن، كل هذا تغير.. ففي المرحلة الراهنة يحدث خلاف ذلك: عداء حاد مع أمريكا سيشغل النظام الإيراني في مواجهته، مزيد من تقلص علاقاتها مع الدول العربية مثل قطع السودان ثم المغرب للعلاقة الدبلوماسية مع إيران إضافة للمواقف الأخيرة للجامعة العربية، بداية تنافر مع دول غرب أوروبا، تقلص التحالف الاستراتيجي مع روسيا، ظهور تحديات جديدة في ساحة الصراع بالمنطقة خاصة احتمال مواجهة وكلائها مع أمريكا في العراق وسوريا، ومع إسرائيل في لبنان وسوريا.. فضلاً عن عودة الاحتجاجات الداخلية واعتقالات رموز الحكومة السابقة.. هذه التغيرات ستجعل النظام الإيراني في حالة دفاع، وستتوالى عليه الخسائر والاضطرابات في المنطقة ما لم يعدل سلوكه، لكن الحرس الثوري الإيراني المتحكم بالقرار الفعلي لا يرى ذلك لأنه متقوقع في صندوقه الإيديولوجي ويمارس نفس سياساته السابقة فيما حكومة روحاني تبحث عن مخارج لها..

في كل الأحوال، ومع ظهور نوايا جديدة وتفسيرات متناقضة لبنود الاتفاقية النووية بين أمريكا وإيران تؤدي حالياً إلى خروقات لروح الاتفاقية وليس لنصها الحرفي، فيبدو أن الاتفاق النووي بدأ تدريجياً يتآكل ويفقد قيمته، وقد يصبح مع الوقت بلا قيمة فعلية؛ ومن ثم تكون أمريكا ألغت عملياً الاتفاق النووي دون الانسحاب منه على الورق إذا لم تنسحب منه فعلاً وقولاً..