ماجد الشيخ 

غريب أمر الدولة عندنا، حيث لا دولة وسط الحضور الطاغي للسلطة، وغريب أمر الأمن عندنا، حيث لا أمن ولا أمان؛ سوى أمن السلطة لا أمن الوطن أو المواطن. وغريب أمر السلطة عندنا، حيث يستعمل السلطويون عندنا كامل عدتهم وعديدهم من أجل الهيمنة على الدولة، وارتكاب الفواحش وادعاء النزاهة والحيادية والموضوعية، فيما هم يأخذون الأمن رهينة تسلطهم وإفسادهم كل المحيطين بهم وشراء ولاءاتهم؛ فلا يبقى من الدولة سوى خرافتها واسمها الذي لا يعني شيئاً لأحد، حين لا تأخذ هذا الأحد في الاعتبار احتراماً وتقديراً، ومنحه كل ما يستحق من مسائل وقضايا المواطنة، كونه مواطناً لدى الدولة، لا واحداً من «عبيد» الزعيم أو من «رعاياه».


لهذا لم يكن من اليسير أن تنشأ الدولة عندنا إلا بالغلبة والإكراه، وبالقفز عن طرفها الآخر عبر إخضاعه قسراً وبالعنف، على عكس ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة: تعاقدية وبالتفاهم البيني المتكافئ، وإلا فإن «قانون الغلبة» سوف يعمل لمصلحة الطرف الأقوى، وهو هنا الطرف السلطوي لا الطرف المواطني الضعيف في مطلق الأحوال، فيجري تطويعه وإخضاعه بـ «قانون العنف» الذي تحتكره السلطة، بإشراف الدولة أو من خلف ظهرها، وفي كلا الحالين لا يستطيع الطرف المواطني تأكيد أو الحصول على كامل حصته ونصيبه من قوانين التعاقد المتفق عليها، أو المصنّعة من قبل من يحوز أو يمتلك السلطة، حين تصير هذه الأخيرة لعبته الأثيرة، أو حين يحوّلها ملعباً أو ساحة لنفوذه، ليستغلها لمصلحته السلطوية أولاً، ولمصالحه الزبائنية والشخصية أو العائلية الخاصة، كما أنظمة الاستبداد وديكتاتوريات العسكر وطغاة الثيوقراطيات الدينية ومحاصصاتهم الطائفية والمذهبية والجهوية والمناطقية.

أكثر مزايدات السلطة على الدولة، اعتبار الدولة ملكيتها الخاصة، بادعاء ومزاعم أنها الأحرص على الدولة بذاتيتها السلطوية من الدولة نفسها ككيان موضوعي، تستلبه سلطوياً حد التلاشي والضياع، فقد ساهم الاستبداد التسلطي ليس بالانقلاب على مجتمعاتها، وتقديس أيديولوجياتها ورفعها إلى مصاف الدين، وأفقد الدولة مجتمعاتها المدنية، مؤثراً النزعات الطائفية والمذهبية والإثنية، عناصر غلبة أضعفت وأفسدت القيم والأخلاق والمعايير التي نشأت عليها مجتمعات الدول المدنية، قبل أن تتحول إلى مجتمعات متناحرة، تتناتشها وتطبق عليها الحروب الأهلية، والمتاجرات بكل شيء، شجعت عليها السلطة على اختلاف قواها المؤثرة بشكل مباشر أو تلك العميقة، وهي تتحد لتفرق كل ما عداها من مجالات الاجتماع البـــشري، وفي مقدمها السياسة، واستبدالها بما يعكس زج الاقتصاد والدين واستثمارهما وتوظيفهما في خدمة الأخطبوط المتنامي في أروقة الدولة وهيمنته عليها، كسلطة تستخدم كل منشآت الدولة ومرافقها لمصالحها الخاصة الشخصية والزبائنية.

لسنا وحدنا من أخضعنا لسلطة السوق – المنشأة، التي حلت محل الدولة بمؤسساتها، فقد ابتلعت السلطة على اختلاف تلوناتها وأطيافها في بلاد كبلادنا، كامل مرافق الدولة والاقتصاد والمجتمع، وأضحت هي المستبد غير العادل أو النزيه، حين هيمنت بمفاهيمها واعتقاداتها الاستـــثنائية، وعلت علواً كبيراً، وغلت غلواً كثيراً، حتى صارت هي الدولة، والدولة البونابرتية هي، وهي المرجعية الأولى والأخيرة. ومثالنا الفاقع في هذا المجال تجسده الدولة الاستبدادية، التي أضحت المالك الوحيد، الوارث السياسي والمعنوي والفعلي لاقتصاد الريع والمقامرة، وسياسات المغامرة في تغليب وتقليب الأيديولوجيا القوموية أو الإسلاموية، وتبني إرثها وتراثها الثقافوي الأكثر ظلماً وإظلاماً بحق الرعية.

الاستثنائية السلطوية وهي تتطبع بطبائع وسمات المافيا عبر تحكمها بالسوق، ابتلعت المجتمع والدولة سواء بسواء، وتحت ظلال سلطة كهذه لم يبق من المجتمع سوى شظاياه، ومن الدولة سوى صورتها وفعل الفشل، فشلها في أن تعود دولة، كما هي دولة العقد الاجتماعي التي جرى التنظير لها، لكن مع مضي الزمن وتغول قوى السوق، بهتت صورة الدولة وأصابها الانتكاس والانكسار، بفعل ذاك التغول الذي انتشر كنار الهشيم، حتى وصل دولة مؤسسات كالولايات المتحدة، وقد أخضعها ترامب لتركيبة مزاجه الخاص ومصالحه الشخصية، من دون أن تنتفض تلك المؤسسات في مواجهة عدوان الفرد، وتغول سلطته وعنفه الأعمى.

هناك في العالم دول كثيرة سقطت أو أسقطت بفعل ديكتاتورية قوانين «الانتخاب» اللاديمقراطية، ولوائح معلبة يحددها الزعيم، سياسياً كان أو دينياً، فلا يبقى من دور للرعية والعبيد ممن لا رأي لهم، سوى إنتاج أو إعادة إنتاج وتوليد سلطة بأهلها، تنفصل أوتوماتيكياً عن المجتمع والدولة، وهنا نكون أمام سلطة سوق مافياوية، تبيع وتشتري كل ما تطاله أيديها وأيدي المقربين منها، فلا تعود هناك دولة سوى «دولة السلطة»، ومحاصصاتها بكل محمولاتها المافياوية، حيث تغيب السياسة أو يجري تغييبها، لا سيما في أوقات الاستحقاقات السياسية الخالية، والبعيدة كل البعد من أي مضمون سياسي.

إذا كانت المنشأة الاقتصادية لا ترقى إلى سوية الدولة، فهناك عبر العالم اليوم، الكثير من الدول التي تحولت أو أضحت بمثابة منشآت اقتصادية، تهيمن عليها «الدولة» المقنعة بسلطاتها الاستثنائية، بغض النظر عن مدى شرعيتها ومشروعيتها، ذلك أن سلطات كثيرة وقد حولت دولها إلى منشآت اقتصادية، أخذت الدولة إلى خانة أخرى، لا تعود معها الدولة بسلطانها السياسي والاقتصادي، دولة بالمعنى المتعارف عليه نظرياً وعملياً، بقدر ما هي مزرعة ريعية يتقاذفها ويتقاسمها أرباب الطوائف والمذاهب ومافيات اقتصاد سلعي، يتحكم فيه بالسياسة أهل السلطة وعائلاتها وما تفرع منها من قرابات أو مقربين، ومن تقاعد منهم أم لم يتقاعد، بحيث لم يعد هناك من مجال لفاسد إلا وأدخل في جوقة المفسدين، حتى لم يبق للدولة أي مجال تتربح منه، فكل ممتلكاتها ذهبت مغانم لأهل السلطة، وكل قراراتها باتت في عهدة الفاسدين والمفسدين من الأبناء والمتنفذين والمحظوظين، وكل منشآتها وقد أممت وتوزعت حصصاً، فقدت ماهياتها الحكومية العامة، كي «يُخلى سبيلها» وتذهب إلى عهدة قوى التغول الاستثنائية الخاصة، مالكة الزمام السلطوي بقوة القهر والإكراه والعنف المقنع.

في هذه الحال، ما الذي يتبقى من الدولة؟ حين تأخذها السلطة غيلة ونكراناً وجحوداً وإكراهاً نحو وديان من غير ذي زرع وضرع، فلا يبقى في تلك الوديان غير حجارة الدين العام، وأثقال ديون راكمتها السلطة بأهلها، وبالمقربين منها وبمن جعلتهم من المتنفذين الذين لا يقاربون سوى لغة المصالح الإفسادية والعلاقات الزبائنية؛ وكل ذلك على حساب الدولة؛ دولة المواطنين وقد تحولت بقدرة قادر السلطة وأهلها إلى مزرعة إقطاعيات خاصة، ينبغي الانقلاب عليها ومناصبتها ضرورة التغيير، والانتصار لخيارات شعبية ثورية ومدنية حقيقية، طال انتظارها في بلادنا.