حسن حنفي

 مازال اليسار يخيف الإسلاميين فكراً وسلوكاً؛ فهو بالنسبة لهم ملحد لا يؤمن بالله ولا بتطبيق الشريعة، ومازال الإسلام يخيف اليساريين؛ فهو غيبيات لا شأن لها بالواقع! تاريخ خصام طويل برغم النجاحات التي أحرزها «لاهوت التحرير» في آسيا وأميركا اللاتينية. يبدو أن الخلاف يكمن في الصراع على السلطة تحت غطاء الأيديولوجيا؛ فكلا التيارين أصولي سلفي لأنه يرفض الآخر، ويريد الحكم بمفرده؛ ويعد نفسه «الفرقة الناجية»، وكل الفرق الأخرى مثل اليسار والليبرالية والقومية.. فرق هالكة ضالة! ولا يذكر كل طرف إلا التاريخ الأسود للطرف الآخر، من قتل وعنف وضيق أفق ورفض للآخر.

«التيار الإسلامي» يتقرب للجماهير عبر التأكيد دائماً على الإيمان بالله والملائكة والجنة والنار ونعيم القبر وعذابه والحور العين.. كما يدعو لـ«الحاكمية»، وهي نقيض للديمقراطية وحكم الشعب، ويطالب بتطبيق الحدود: الصلب والرجم والجلد وقطع اليد، ويريد وضع النساء كرقيق أو سبايا. إنهم لا يرون في الدين إلا هذا، ولم يروا فيه المساواة والعدالة الاجتماعية وحق الفقراء وحرية الضمير والجهر بالحق. ولا يرى الإسلاميون في اليسار إلا الإلحاد والمادية والعنف والصراع الطبقي وإطلاق الحريات الجنسية وكبت الحريات السياسية وقمع المخالفين في الرأي.

لكن جوهر التيارين أو مضمونهما واحد وإن اختلفت المصطلحات، والموقف واحد وإن اختلف السياق. كل طرف لا يرى في الآخر إلا الصفحة السوداء من تاريخه، بينما يرى نفسه ملاكاً بلا أخطاء ولا سلبيات.

وعن ذلك المضمون أو الجوهر يعبِّر الإسلاميون بالإلهيات الرمزية المغتربة عن الواقع، واليساريون بالإنسانيات متجاوزين الرمز إلى الدلالة المباشرة. لذلك فما يمنع الالتقاء بينهما هو صورة كل منهما في ذهن الآخر؛ الإسلاميون ضد الوطن. والعلمانيون ضد الدين!

لكن ماذا عن أبي ذر الغفاري الذي رفض التفاوت بين الأغنياء والفقراء اعتراضاً على عثمان، وعمر بن العزيز الذي امتلأت خزائنه بأموال المسلمين، لكنه يطفئ مصباحهم عند أحاديثه الخاصة؟ وماذا عن أصول الإسلام الأولى، ومنها قوله تعالى: ‏«وَالَّذِينَ ‬فِي ‬أَمْوَالِهِمْ ‬حَقٌّ ‬مَعْلُومٌ ‬لِلسَّائِلِ ‬وَالْمَحْرُومِ»، ‬و«وَيُطْعِمُونَ ‬الطَّعَامَ ‬عَلَى ‬حُبِّهِ ‬مِسْكِينًا ‬وَيَتِيمًا ‬وَأَسِيرًا»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من بات جوعانا وجاره طاو»..؟ ‬هل ‬هي ‬إسلامية ‬أم ‬يسارية؟

‬الذي ‬يؤجج ‬الصراع ‬بين الإسلاميين ‬واليساريين إنما ‬هو ‬سعي ‬كل ‬منهما ‬إلى ‬السلطة ‬واعتبار ‬الآخر ‬غريماً. ‬والحقيقة أن الدين بنية اجتماعية، وهو كثيراً ما يؤدي إلى تغيير أيديولوجية المجتمع، وإن كان هو أيضاً يتأثر بالتقاليد المجتمعية في كل مرحلة تاريخية.

في اعتقادي أنه لا تعارض بين اليسار وبين الإسلام الحقيقي؛ فالإسلام ليبرالي يدافع عن الحريات العامة، وهو عروبي لأنه ثقافة العرب شعراً وسياسة، وهو اشتراكي كما أكد كثير من كتابنا في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. وقد رأينا مثل ذلك التوافق بين المسيحية والاشتراكية عبر «لاهوت التحرير» في أميركا اللاتينية.

لم ينجح «اليسار الإسلامي» كتيار مجتمعي في الظهور والبروز، إذ ليس وراءه جماعة حزبية أو دينية، لذا فقد اكتفى بالطرح النظري المجرد؛ لأنه ابتعد عن السلطة ومكائد الوصول إلى الحكم، وما زالت فكرته محاصرة بين اليمين الديني واليسار العلماني. إن تكوين جماعة سياسية يتطلب وجود قوى تنظيمية هائلة وتوافر تمويل ضخم، وهو ما لم يتوافر لـ«اليسار الإسلامي» الذي ما فتئ مجرد طرح نظري استدعاه الخصام الأيديولوجي والصراع السياسي في الوطن العربي.

هذا في الظاهر، أي عدم نجاح «اليسار الإسلامي» على المستوى العملي، لكن العديد من القوى التقدمية بدأت تلامس أفكاره وتوجهاته، لاسيما في دول مثل المغرب وتونس وماليزيا وتركيا وإندونيسيا.. وما زالت ترد خطابات عن الرغبة في تكوين ائتلاف شيوعي إسلامي أو إسلامي شيوعي. لكن الأمر قد يحتاج إلى مزيد من الوقت حتى تتحول فكرة هذا التيار إلى حركة اجتماعية تؤثر في مسار التاريخ وحركة المجتمع.