عبدالله بن بجاد العتيبي

 في قرارٍ تاريخي بالغ الأهمية والتأثير قرر الرئيس الأميركي دونالد ترمب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، بعدما أثبت بالدليل القاطع أن الولايات المتحدة هي أقوى دولة عرفها التاريخ البشري، وأنه سيلتقي رئيس كوريا الشمالية في سنغافورة في موعد لم يحدد بعد.

لقد قتل ترمب إحدى أسوأ الاتفاقيات في التاريخ، كان اتفاقاً مجحفاً بحق أميركا نفسها وبحق دول الخليج التي لم تكن طرفاً فيه من البداية مع أنها أكثر المتضررين منه، وقد جاء ضمن سياق سياساتٍ عدائية قادتها إدارة أوباما ضد العديد من الدول العربية ومنحت النظام الإيراني، النظام الأكثر شراً في العالم، فرصة لالتقاط الأنفاس وتعزيز صناعاته للصواريخ الباليستية وتدخلاته في الشؤون الداخلية للدول العربية.
كان طبيعياً أن تؤيد المملكة العربية السعودية وهي التي شكّلت رأس الحربة على المستوى الدولي في فضح النظام الإيراني وجرائمه، وكان لولي عهدها دورٌ كبيرٌ في اتخاذ أميركا قرار الانسحاب من الاتفاق النووي وهو ما يمهد لمواجهة حقيقية مع نظام الإرهاب الأكبر حول العالم.
كان الرهان التاريخي للسعودية على الدول الغربية لا على دول الشرق، وفتحت علاقاتٍ مبكرة مع الولايات المتحدة الأميركية منذ اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى اليوم، والزيارة التاريخية لولي العهد الأمير محمد بن سلمان لأميركا، وهي زيارة غير مسبوقة لأي زعيمٍ حول العالم لا في ضخامة ملفاتها ولا سعة تأثيرها ولا حجم تعزيزها للشراكة، وهذا القرار الأميركي بالانسحاب يدفع بالعلاقات إلى آفاق جديدة.
أعداء السعودية في الشرق وليسوا في الغرب، لم تطأ أراضي السعودية قدم مستعمرٍ غربي قط، ولكن وطأتها أقدام مستعمرٍ شرقي عتيدٍ، هو المستعمر التركي الغاشم مرتين، ولم تُهاجم الدولةَ السعودية الحديثة عسكرياً أيُّ دولة غربية، بل قصفتها طائرات عبد الناصر وهاجمتها صواريخ صدّام حسين، وحاولت اغتيالَ مليكها السابق ليبيا القذافي وقطر الخيانة، وهي تصد مئات الصواريخ الباليستية الإيرانية التي تطلقها ميليشيا الحوثي على مدنها الآهلة بالسكان.
مثل الدول الغربية لم تهاجم إسرائيل السعودية عسكرياً قط، والعلاقات السياسية معها تحكمها معاهداتٌ دولية مثل كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، لمصر والأردن وفلسطين، وبقية الدول العربية متفقة بالإجماع على المبادرة العربية للسلام التي هي في الأصل مبادرة سعودية، وبالتالي، فلا أحد في العالم العربي يتحدث عن حربٍ مع إسرائيل أو رغباتٍ في التوسع وبسط النفوذ بينما على العكس تماماً يقف النظام الإيراني، الذي يتفاخر مسؤولوه باحتلالهم لأربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء، والذي لم يفتأ يرسل خلايا الإرهاب السنية والشيعية إلى السعودية وبعض دول الخليج، ويسعى للتوسع في أفريقيا وتصل عملياته التخريبية إلى أميركا الجنوبية وغيرها حول العالم.
بعيداً عن الشعارات الجوفاء والخطب الرنانة لبعض بقايا القوميين العرب وأمثالهم فإن أرامل وأيتام وجرحى الجرائم الميليشياوية الإيرانية الغاشمة في العراق وسوريا وفي بيروت واليمن يتمنّون أن تدمر إسرائيل كل أذرع إيران من الأنظمة إلى التنظيمات والأحزاب، فهم عايشوا هذه الجرائم من تهجير قسري إلى جرائم إبادة جماعية، إلى تفاصيل لا تنتهي من التعذيب والقتل واستخدام الأسلحة الكيماوية وعشرات الجرائم الأخرى، وليس راءٍ كمن سمع.
حتى مواطنو دول الخليج العربي يتمنون أن تنتصر إسرائيل على إيران في كل معركة وكل موقعٍ، لا لأنهم يحبون إسرائيل بل لأنهم يكرهون إيران، ويعرفون أكثر من غيرهم من العرب ما تعنيه سياساتها وإرهابها.
حتى تستقيم توازنات القوى في المنطقة فينبغي القضاء نهائياً على كل ما غفل عنه الاتفاق النووي مع إيران، وأهمه ألا يكون لإيران الحق في امتلاك السلاح النووي لا بعد عشر سنواتٍ ولا مائة سنة، وأن تتخلى نهائياً عن صواريخها الباليستية وأن تتخلى عن أوهام التوسع والنفوذ وتعود مجبرة على الاهتمام بشعبها ومواطنيها، وأن تترك انتهاك سيادة الدول واستخدام المحاربين بالوكالة من أحزاب وجماعات وتنظيماتٍ.
هذا القرار التاريخي للرئيس ترمب يأتي تتويجاً لتحركات السعودية ذات المسارات المتعددة التي قررت مواجهة النفوذ الإيراني بكل الوسائل ضمن قراراتٍ تاريخية كبرى سياسية وعسكرية وثقافية وغيرها، وهو ما أجبر النظام الإيراني على المعاناة حتى في مناطق النفوذ التي يعتقد أنها أصبحت تبعاً له في الدول العربية الأربع المذكورة سابقاً، فضلاً عن إحكام التضييق عليه بالقوتين الناعمة والخشنة.
الدول القوية عبر التاريخ تنتقم من زعمائها الضعفاء، وهكذا كان قدر أميركا مع أوباما وترمب، فبعد الهوان والإذلال الذي أجبر أوباما على تجرعه حول العالم جاء ترمب ليصفي ذلك كله، دون أي استخدامٍ للقوة، وبالسياسة فحسب، حتى الآن، ولكن بوضع حسابات القوة على كل طاولات التفاوض حول العالم، مع روسيا والصين كما مع الدول الأوروبية الباقية في الاتفاق النووي، كما مع كوريا الشمالية وإيران، فضلاً عن الذيول في سوريا والعراق ولبنان واليمن، وليس أدل على هذا من بدء بعض الأميركيين في استحضار صور الجنود الأميركيين الذين أذلّتهم إيران علناً وعرّتهم من ملابسهم العسكرية وأهانتهم وأهانت أميركا زمن أوباما بحسرة ورغبة في الانتقام.
المنطقة اليوم على صفيحٍ ساخنٍ، يزداد سخونة، وطبول الحرب تقرع، والدول تتجهز وتتحضر، ولا أحد يرغب في حربٍ شاملة، ولكنه يستعد لها، بكل ما يمكن، وذلك هو الرأي الحصيف والقرار الحاسم، فإعادة وحش الإرهاب الإيراني إلى جحره تحتاج إلى كل القوة والعزيمة والإصرار.
كانت فترة التوسع الإيراني السابقة خطأ استراتيجياً غفلت عنه دول المنطقة والعالم، وحتى يتخلص العالم من هذا الجنون الإرهابي التوسعي فإن توازنات القوى يجب أن تعود لترتيبها الصحيح، وهي إعادة ترتيبٍ لا بد منها ولا خيار غيرها، والأغبياء فقط يُخذلون في قراءة التحولات الكبرى في التاريخ كتلك التي تجري حالياً، وذلك من دولٍ كبرى وصغرى حول العالم.
تخلِّي كوريا الشمالية عن عنجهيتها وشرورها السابقين في حال اكتماله يمثل نموذجاً يمكن احتذاؤه مع إيران، ليصبح نموذجاً لاستعادة الدول المارقة وإجبارها على احترام القوانين الدولية وسيادة الدول والسلم والأمن الدوليين، وقد لمح ترمب في خطاب الانسحاب إلى نموذج كوريا الشمالية وأن على إيران أن تعرف أنه سبيل الخلاص الوحيد في المستقبل، وأنها ينبغي أن تحذو حذوه.