ياسر عبد العزيز 

يمكن القول إن مصر دولة قادرة على أن تكون محورية وقاعدة في النظام الإقليمي، وإنها تملك قدرات ومقومات تأدية أدوار مؤثرة في السياسة الإقليمية والدولية، لكن هذا الدور، وما يتبعه من تأثير، ليس قدراً محتوماً، بقدر كونه مرهوناً بوضعها الداخلي، وقوتها الشاملة.

لطالما أكد علماء السياسة أن السياسة الخارجية ليست سوى امتداد للسياسة الداخلية، وأن قدرة أي دولة على ممارسة مثمرة ومؤثرة في السياسات الإقليمية والدولية تنبع أساساً من القوة الداخلية، ومدى التجاوب مع المتطلبات والمحددات والقيود.

وانطلاقاً من ذلك التأسيس يبدو أن دور مصر الخارجي لا يمكن قراءته وتحليله إلا من خلال النظر إلى الداخل، ومعاينة التطورات المحلية، وحساب القدر الذي تتيحه من القوة والفاعلية لتأدية الأدوار الخارجية.

شهد الدور الإقليمي المصري لحظات إشراق تاريخية منذ عصر الدولة الحديثة، التي أسسها محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، وقد أعطى هذا التأسيس البراهين الدالة على أن تطوير الاقتراب الإقليمي والدولي للبلاد يبدأ من بناء الداخل.

لم يبدأ محمد علي في مقارعة القوى الدولية والإقليمية، وتوسيع رقعة النفوذ المصري، إلا بعد استكمال قواعد البناء الداخلي؛ وهو الأمر الذي ظهر في تأسيس الجيش القوي الحديث، وبناء المصانع، وتطوير الزراعة، وشق الترع والمصارف، وصيانة نهر النيل، وتطوير التعليم، وإرسال البعثات، وزيادة الدخل القومي.

عندما أسس محمد علي بنية أساسية قوية، وعالج العوار الاقتصادي والمالي، وبنى قدراً من الاعتماد على الموارد المحلية معتبراً، وحقق فوائض في الإنتاج، وتبنى سياسة إحلال للواردات عبر عمليات تصنيع مدروسة، كان بوسعه أن يتطلع إلى الخارج لتأدية الدور المستحق.

وبعيداً عما آلت إليه تجربة محمد علي، التي اصطدمت بمصالح غربية، وتحالفات بين قوى كبرى، أعادت صياغة مشروعه، وألحقت به هزيمة عسكرية، وأجبرته على تقليص طموحاته الإقليمية، فإن دراسة تجربته ما زالت صالحة للبرهنة على نجاعة التعويل على الداخل لبناء دور إقليمي مؤثر.

أعاد الرئيس جمال عبدالناصر التجربة مرة أخرى، عندما كانت مصر في عهده دولة قاعدة ومحورية بحق في تأدية الأدوار الإقليمية البارزة، بل في التأثير في تفاعلات السياسة العالمية، عبر سياساته الرامية إلى دعم ما عرف بـ"ثورات التحرر الوطني" ودعم "استقلال الشعوب"، في مواجهة "الإمبريالية العالمية".

أراد الزعيم الراحل أن يبدأ تجربته الإقليمية والدولية انطلاقاً من أساس داخلي متين؛ فسعى إلى تعزيز تسليح الجيش عبر اتفاقيات عسكرية مع الاتحاد السوفياتي السابق وقوى المعسكر الشرقي، بموازاة حركة تصنيع واسعة، وسياسات اجتماعية كانت محل جدل، لكنها عززت شعبيته، وزادت التماسك الوطني، والالتفاف حول القيادة.

لكن تجربة عبد الناصر كانت أكثر مدعاة للأسى من تجربة سلفه محمد علي؛ إذ إنها انتهت بهزيمة عسكرية مذلة، واحتلال لجزء من الأراضي المصرية والعربية، وأفضت لاحقاً إلى صعود التيار الديني، الذي عرفنا فيما بعد أنه كان سبباً في تأخر عمليات التحديث الاجتماعي والسياسي، وصولاً إلى تهديد الدولة الوطنية، والعبث بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي.

كانت حرب أكتوبر 1973، التي تم شنها في عهد الرئيس السادات ذروة من ذرى تألق الدور الإقليمي المصري، ليس لأنها شهدت توافقاً مصرياً- سورياً نادراً فقط، حيث خاضت الدولتان الحرب معاً، ولكن أيضاً لأن تلك اللحظة المجيدة في التاريخ العربي شهدت نوعاً من الالتفاف الإقليمي، والتآزر، والإيثار، والمشاركة الفعالة في الحرب من عدد كبير من الدول العربية، وهو الأمر الذي شهد ذروته في الموقف الخليجي المجيد، حين قطعت دول خليجية إمدادات البترول عن الغرب، للتأثير في موقفه الداعم لإسرائيل.

منذ تلك اللحظة أخذ الدور الإقليمي المصري في التدهور والأفول، وراحت مصر تنسحب شيئاً فشيئاً من أدوارها ومسؤولياتها الإقليمية، وهو انسحاب لم ترثه دولة أخرى بعينها، أو تحالف محدد، ولكن ورثه الفراغ، وبالتالي ظلت المنطقة بلا ملامح نظام إقليمي واضح، ومن دون قيادة إقليمية فعالة.

في الأسبوع الماضي، كان الرئيس عبدالفتاح السيسي يتحدث في أحد المنتديات الشبابية التي تعقدها رئاسة الجمهورية المصرية بانتظام في الآونة الأخيرة، وحين أتى الحديث عن رؤية مصر للسياسة الإقليمية، أعاد التركيز على محددات رؤية مصر وحدود حركتها الإقليمية.

يمكن أن نفهم مما قاله الرئيس السيسي أن رؤية بلاده للمقاربة الإقليمية تتحدد في العناصر التالية:

• استبعاد الحرب كخيار وحل

• التأكيد على وحدة أراضي الدول وسلامة ترابها الوطني

• احترام سيادة الدول

• الحد من التدخلات الإقليمية والدولية

• احترام مكانة الجيوش الوطنية، والتأكيد على دورها الحصري في صيانة الأمن القومي لبلدانها

• تعزيز التعاون والتفاهم وحل النزاعات سلمياً باستعراض هذه العناصر، نجد أنها ليست سوى معايير وأسس، ذات طابع أخلاقي ومبدئي، أكثر من كونها ملامح سياسة إقليمية تنطوي على أدوار ومواقف وتقديرات مرنة.

لا يمكن لمصر أن تؤدي دوراً إقليمياً فعالاً من دون تطوير أوضاعها الداخلية؛ إذ يظل الافتقار إلى المقومات الاقتصادية عاملاً جوهرياً في تحجيم الأدوار الإقليمية والدولية.

إن تفاقم الصعوبات الداخلية التي تواجهها البلاد راهناً تحرم القيادة من تطوير سياسة إقليمية جريئة تعبر عن المكانة والمكان والاعتبار التاريخي للدولة المصرية.

بسبب المآخذ التي تسجلها دول ومنظمات دولية مرموقة على مصر من جراء الممارسات المتصلة بالحريات وحقوق الإنسان، تفقد الدولة الصورة الذهنية المطلوبة لتأدية الأدوار الكبرى إقليمياً.

ورغم أن الجيش المصري يعد ركيزة أساسية للدولة، ومفخرة وطنية وقومية، وعمود الدولة الصلب، وأبرز مقومات قوتها الشاملة، فإنه، وفق بيان الرؤية المعلن للسياسة الإقليمية المصرية، سيظل بعيداً عن التورط في أي نزاع، عبر المشاركة القتالية أو تأدية أدوار تستوجب انتشاراً خارج الحدود، مما يحد من قدرة الدولة الشاملة على تعزيز النفوذ الإقليمي.

ينطلق الدور الإقليمي المصري الراهن من حسابات تتعلق بالداخل المضغوط ومحدود الموارد، وهو أمر نزع منه القدرة على تحقيق الفاعلية، لكن ذلك لم ينل أبداً من اتساقه الأخلاقي، وسلامة توجهه القومي.