أدرج وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو خروج إيران من سوريا في خانة الشروط المطلوب من طهران تنفيذها، في حال أرادت إقامة علاقات طبيعية مع المجتمع الدولي على رأسه الولايات المتحدة. جاءت كل الشروط التي وضعها بومبيو في سياق تحديد الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المواجهة مع «الجمهورية الإسلامية» في ضوء قرار الرئيس دونالد ترامب القاضي بالانسحاب من الاتفاق في شأن الملف النووي.

سمح الاتفاق لإيران في الحصول على ما يكفي من المال الذي أغدقته عليها إدارة باراك أوباما كي تتابع تنفيذ مشروعها التوسّعي القائم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية في المنطقة العربية كلها، فضلاً بالطبع عن المتاجرة بالقضيّة الفلسطينية والفلسطينيين والتشجيع على إنشاء ميليشيات مذهبية تكون ذراعاً لها في هذا البلد العربي أو ذاك.

يتبيّن من خلال قراءة سريعة لكلام وزير الخارجية الأميركي أن هناك وعياً حقيقياً لخطورة المشروع الإيراني وأدواته. أشار بومبيو صراحة إلى «حزب الله» وإلى الحوثيين الذين يطلقون صواريخ باليستية إيرانية في اتجاه الأراضي السعودية انطلاقاً من اليمن. أشار أيضاً إلى الوضع الداخلي الإيراني وإلى توق الشباب في هذا البلد ذي الحضارة القديمة إلى الانتماء إلى ما هو عصري في هذا العالم، أي إلى ثقافة الحياة التي يكرهها النظام الإيراني وكلّ الذين يسيرون في ركابه. في الواقع، انطوى كلام بومبيو على دعوة مباشرة إلى تغيير النظام في إيران. نعم، الإيرانيون يستحقون نظاماً أفضل.

يظلّ أهم ما في كلام وزير الخارجية الأميركي شرط الانسحاب الإيراني من سوريا. هل في استطاعة نظام إيران الانسحاب من سوريا من دون أن ينسحب من طهران. سيكون ذلك صعباً عليه لأسباب عدّة. من بين هذه الأسباب حجم الاستثمار الإيراني في سوريا وفي المحافظة على رأس النظام المتمثل ببشّار الأسد. باعتراف المسؤولين الإيرانيين أنفسهم، صرفت إيران في سوريا منذ اندلاع الثورة الشعبية في العام 2011 ما يزيد على خمسة وعشرين مليار دولار. دافعت إيران عن بقاء بشّار الأسد في دمشق. جندت مئات الخبراء العسكريين وعناصر «الحرس الثوري» وآلاف من عناصر «حزب الله» و«الحشد الشعبي» في العراق والميليشيات الأفغانية في حربها على الشعب السوري. فعلت كلّ ذلك من منطلق مذهبي ليس إلّا.

كانت النتيجة فشلاً إيرانياً ذريعاً على كل صعيد والتضحية بمئات الشبان اللبنانيين الذين جنْدهم «حزب الله» وأرسلهم إلى سوريا. فوق ذلك كلّه، لم تستطع إيران إبقاء بشّار في دمشق لولا استعانتها بروسيا التي بدأت التدخّل المباشر في الحرب، التي يشنها النظام السوري على مواطنيه منذ أواخر أيلول (سبتمبر) 2015. لولا سلاح الجوّ الروسي، لكان بشّار خارج دمشق منذ فترة طويلة ولكان الساحل السوري كلّه في يد المعارضة.

تكمن مشكلة إيران في أنّها ترفض دفع ثمن سياسة عاجزة عن متابعتها بمفردها، خصوصاً في سوريا. لم تأخذ في الاعتبار أنّه سيأتي يوم يتغيّر فيه باراك أوباما ويأتي دونالد ترامب، الذي يعرف الذين يصيغون خطاباته ماذا فعل النظام الإيراني بالإيرانيين أوّلاً وما ارتكبه من جرائم في حق الولايات المتحدة. ليس صدفة استعادة الرئيس الأميركي بين وقت وآخر موضوع احتجاز ديبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران 444 يوماً في العامين 1979 و1980 وتفجير مقر المارينز قرب مطار بيروت في 23 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1983 وخطف أميركيين في لبنان في ثمانينات القرن الماضي.

هناك واقع يتمثل في حلول وقت الحساب. تحاول إيران الإفلات من هذا الواقع، بما في ذلك من التحالف الأقوى في المنطقة القائم بين روسيا وإسرائيل. هذا تحالف لم تعد من حاجة إلى تأكيد متانته بعد حلول بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي ضيف شرف على روسيا في ذكرى احتفالها بالانتصار على النازية. هناك ما يزيد على مليون روسي صاروا مواطنين في إسرائيل. ما زال المسؤولون في موسكو يسمون هؤلاء «مواطنين في إسرائيل». ينتمي الروس الذين انتقلوا إلى إسرائيل، على دفعات، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي إلى الأحزاب اليمينية التي تشكل العمود الفقري للحكومة الإسرائيلية الحالية.

عندما يبلغ فلاديمير بوتين بشّار الأسد أنّه بات على القوات الأجنبية، بما في ذلك الخبراء والمستشارون الإيرانيون والعناصر التابعة لـ«حزب الله» ولغيره من الميليشيات المذهبية، الانسحاب من الأراضي السورية، يُفترض في طهران فهم معنى الرسالة والاستيعاب التام للمعطيات الجديدة التي تفرض عليها تغيير نمط سلوكها.

إنّ دعوة روسيا إيران إلى الانسحاب من سوريا أكثر من جدّية. جاء وزير الخارجية الأميركي ليؤكّد ذلك وليؤكد خصوصاً أنّ الضربات «المجهولة» المصدر التي تتلقاها المواقع الإيرانية في سوريا لن تتوقف غداً. تمثّل هذه الضربات ما يمكن تسميته، باللغة المتداولة في الأوساط الرسمية السورية «التعليمات التنفيذية». تعني هذه «التعليمات» أنّه آن أوان تنفيذ ما تقرّر على أعلى مستويات. فالقانون والمرسوم والقرار الرئاسي في سوريا يبقى حبراً على ورق في المجال الداخلي إلى أن تأتي «التعليمات التنفيذية». وفي ما يخص الموضوع السوري، صدرت «التعليمات التنفيذية» من أعلى المستويات، أي من التفاهم الأميركي - الروسي الذي يشمل إسرائيل التي انتقلت إلى مرحلة لم يعد فيها مجال لقبول الوجود العسكري الإيراني المباشر أو غير المباشر، خصوصاً في الجنوب السوري.

هل تستطيع إيران التكيّف مع هذا الواقع الجديد المتمثّل في صدور «التعليمات التنفيذية» من دون الذهاب إلى تفجير الوضع في المنطقة كلّها على الرغم من أن ذلك مجازفة كبيرة بالنسبة إليها، خصوصاً إذا طلبت من «حزب الله» إعادة فتح جبهة جنوب لبنان؟

الأكيد أن إيران تزن هذه الأيام الموقف وما سيكلفها الانسحاب من سوريا أو قرار البقاء فيها. الأكيد أنّ في ذهن كلّ مسؤول إيراني أن الانسحاب السوري من لبنان في نيسان (أبريل) 2005، ادّى إلى خروج النظام من دمشق، حتّى لو بقي بشّار فيها شكلياً. ترجمة هذا الكلام على أرض الواقع أن البقاء في سوريا مجازفة والانسحاب مجازفة. على أي مجازفة من المجازفتين ستقدم إيران بعدما وضعت نفسها في موقف لا تُحسد عليه؟ من أبرز ما تنطوي عليه أي مجازفة إيرانية، في أي اتجاه كان، مستقبل النظام الذي بنى كلّ قوته على الهرب المستمر إلى خارج الأرض الإيرانية.