ممدوح المهيني

تعرض المفكر السياسي، فؤاد عجمي، لحملات تشويه وشيطنة خلال حياته، ولم تتوقف حتى بعد سنوات على رحيله. في حقيقة الأمر زادت الشتائم من زمرة المثقفين لحظة انتشار نبأ وفاته، وبسرعة تحولوا إلى دعاوى العجائز الأميات يتمنون له الخلود في الجحيم إلى الأبد.

تقريباً ذات المشهد عاد مرة أخرى مع رحيل المفكر المؤرخ، برنارد لويس، الذي تحول خبر وفاته إلى حفلة شتائم وأدعية واحتفالات، وهناك من قال إنه الوجه الآخر لداعش!

هذا السلوك البدائي هو أقرب إلى سلوك الغوغاء، الذين يحكمون قبل أن يقرؤوا، أو الوعاظ المتعصبين الذين يحفظون ويصدرون الفتاوى ولا يفكرون، ولكن المثقفين المشاهير حراس الحرية الفكرية هم من يقودون حملات التخوين والتحريض ليس فقط الفكري ولكن الديني أيضاً. وليس من الغريب بعد ذلك أن نشتكي من تراجع مستوى الوعي وسيادة ثقافة القطيع إذا كان "رموز" الفكر والمعرفة هم من ينشرون الأكاذيب ويحرضون البسطاء.

في حالة المفكر السياسي، فؤاد عجمي، شاهدتُه في العديد من المقابلات، وقرأتُ له مقالاتٍ وكتباً تميزت بالثراء التاريخي وبراعة الأسلوب. أما فيما يخصُّ الأفكار، فقد تميزت بالصراحة والعقلانية وتحدث عن أمراض الثقافة والسياسة العربية بدون خداع ومجاملة. هل كل ما قاله صحيح؟ بالطبع لا، هذه هي طبيعة الجدل والحوار الفكري حول القضايا الكبرى، تطرح آراءك وتصوراتك والتاريخ كفيل بالحكم على صحتها. لكن هذا الجو من الحرية الفكرية والنقاش الموضوعي تحول إلى هجوم على الشخص وشتمه وتخوينه واتهامه بالعمالة والمروق.

ولحسن الحظ أن غالبية الصحافيين والمفكرين العقلانيين الكبار شخصيات شجاعة غير مرتعشة، لا تخيفها حملات الابتزاز والتخويف المستمرة، ولا تهرع إلى حرق كتبها وإعلان التوبة النصوح.

أما المؤرخ برنارد لويس فقد درس في أهم الجامعات، ونشر مؤلفات مهمة عن التراث الإسلامي، ومن السهل الاطلاع على محاضراته ومقابلاته التي تملأ اليوتيوب. يتميز بالمعرفة التاريخية العميقة والتحليل العقلاني المقنع والمنطقي. هناك من اختلفوا معه وصححوا بعض استنتاجاته، ولكنه مؤرخ كبير تحول مع حفلات التخوين الصاخبة إلى صهيوني وفاشي واستعماري.

وأضيف على هذين المفكرين المهمين، مثقفاً آخر هو الراحل جورج طرابيشي، الذي قدَّم كتباً وقراءاتٍ مهمة ومضيئة عن التراث الإسلامي، ولكنَّ كارهيه الذين جرحت كتبه نفسياتهم المتأزمة، لم يروا فيه إلا مسيحياً مندساً وخبيثاً يريد هدم أركان الدين. مرة أخرى، اللغة التخوينية التحريضية تعيد نفسها من جديد.

من الملاحظ أن هذه الشتائم والحملات المغرضة لا تنصب إلا على نوعية معينة من المثقفين والباحثين، أولئك الذين يقدمون قراءة عقلانية وتاريخية للتاريخ والواقع بدون مجاملة أو تحريف. وفي ذات الوقت يتلقى باحثون عرب وأجانب المديح والثناء لقدرتهم على اختراع تاريخ معدل ومحرف وإلقاء اللوم على الآخرين سبب المشكلة وليس نحن.

وعرف هؤلاء المثقفون الأجانب السر، فبقدر ما تُدلِّك النفوس وتنفخها بالاعتزاز بالماضي والإحساس بالظلم من القوى العالمية "المتجبرة"، تحظى بالمحبة والتقدير. ولكن هذه المعادلة المريحة السعيدة تنقلب إلى محاكمة مفتوحة إذا كشفت عن أصل المشاكل وأسباب التراجع.

وبالطبع فإنَّ لحملات التخوين هدفاً آخر، هو عزل تأثير هذه الشخصيات العقلانية من التأثير والتوسع، لأن تلطيخها بصفات العمالة والخيانة، سيصنع بينها وبين القرَّاء جداراً من الشك يَصعُب اختراقُه. إلى جانب التمنيات بالخلود بالجحيم، هذه آلية أخرى يستعيرها هؤلاء المثقفون من الصحويين الذين استغلوا عدم اطلاع الجمهور، بإلصاق التهم بالصحافيين والكتاب الذين يكرهونهم ويخافون من قوة أفكارهم.

تحرم هذه الحملات المجتمعات من حرية الجدل الفكري واستقبال أفكار جديدة بدون محاكمات مسبقة، وتزيد من قيم الهجاء والشتائم وتعزز من ثقافة التآمر وتلبس المثقفين العقلانيين الذين لديهم الجواب لمشاكلنا لباس الخونة والعملاء، وبالطبع تزيد من شعبية وجماهيرية المحرضين على حساب الوعي والمعرفة. ولا نعرف شيئا عن مصيرنا في العالم الآخر، ولكن في الدنيا، سيخلد اسم لويس كأحد أهم المؤرخين في العصر الحديث.