صالح القلاب

 أُثير في الآونة الأخيرة جدل على نطاق واسع حول ما إذا كان الخطر الإيراني علينا كعرب، وبالطبع فإن المقصود ودائماً وأبداً هو هذا النظام الرجعي حقاً والمصاب بعُقَد التاريخ القديم والحديث كلها، الصغيرة والكبيرة، وليس الشعب الإيراني الشقيق الذي ما يجمعنا به ويجمعه بنا أكثر كثيراً مما يفرّقنا، هو - أي خطر إيران - أشد وأسوأ من الخطر الإسرائيلي، وحقيقة أن مجرد اللجوء إلى هذه المقارنة يعني أنَّ هناك إحساساً عربياً، لا بل قناعة بصورة عامة أن هذه الدولة التي من المفترض أنها ليست مجاورة وصديقة فقط بل شقيقة أيضاً، مثلها مثل أي دولة عربية من «دولنا» غير المصابة بداء العظمة وبعقدة الارتماء في أحضان الذين ينظرون إلى العرب نظرة دونية.


ولعل ما يوجع القلوب فعلاً أن مجرد اللجوء إلى عَقْد مثل هذه المقارنة، التي ما كانت واردة حتى في عهد النظام الشاهنشاهي قبل عام 1979 ولا في عهد ومرحلة مصطفى كمال (أتاتورك) في تركيا، يعني أن «الملالي» الذين باتوا يسيطرون على الحكم منذ نحو أربعين عاماً قد حوّلوا إيران من دولة من المفترض أنها مجاورة وشقيقة، يربط العربَ بها ويربطها بالعرب تاريخٌ مشترك طويل، إلى دولة معادية ذات أطماع تمددية واحتلالية وأيضاً توسعية ليس في الدول المجاورة والمحاددة فقط، وإنما في المنطقة العربية كلها، من تطوان في الغرب حتى سيف سعد في آخر نقطة شرقية على الحدود العراقية – الإيرانية، وهذا هو ما بدأ يحصل منذ أن انتزع «المعممون» عرش الطاووس، وأجلسوا فوقه «آية الله العظمى» روح الله الخميني... رحمه الله على أي حال.


كان الاعتقاد حتى قبل انتصار الثورة الخمينية في فبراير (شباط) عام 1979، أنّ إزالة عرش الطاووس وإسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي سيضع هذا البلد الإسلامي بكل إمكاناته وبكل تأثيره الإقليمي والدولي إلى جانب العرب في صراعهم مع إسرائيل وإلى جانب الثورة الفلسطينية تحديداً. وهنا لعل هناك مَن لا يعرف أن حركة «فتح» كانت قد أرسلت وفداً من كبار مسؤوليها للقاء الخميني عندما كان لا يزال يقيم في النجف في العراق، لإبلاغه بتأييد الشعب الفلسطيني له، ويومها أصدر قائد الثورة الإيرانية هذا فتوى، من قبيل رد الجميل، تجيز دفع الزكاة لـ«المجاهدين الفلسطينيين».


والمعروف أن (أبو عمار) بقيَ على تواصل مع الخميني خلال وجوده في النجف ثم بعد انتقاله إلى نوفيل لوشاتو في فرنسا التي انتقل منها إلى إيران الثائرة، وأنه، أي عرفات، كان قد ترأس وفداً كبيراً إلى طهران كان من بين أعضائه الأساسيين الرئيس الحالي محمود عباس (أبو مازن) بعد انتصار الثورة الخمينية مباشرةً، وحقيقة أن القيادة الفلسطينية ومعها الشعب الفلسطيني بغالبيته كانت تراهن على أن هذه الثورة ستضع كل إمكاناتها إلى جانبها وأنها ستعزز التفاف الشيعة اللبنانيين حولها، وكما بقي الوضع عليه منذ عام 1965 وعلى مدى نحو عشرين عاماً وإلى أن ظهر «حزب الله» الذي أعلنه حسن نصر الله لاحقاً فصيلاً مقاتلاً في «فيلق الولي الفقيه».
إن هذا هو «التصور» الفلسطيني والعربي أيضاً لدى انتصار الثورة الإيرانية لكن كل هذه الآمال العريضة ما لبثت أن انقلبت إلى إحباط شديد وذلك مع أن الفلسطينيين والعرب، بمعظمهم قد انحازوا وجدانياً وسياسياً كشعوب وكتنظيمات سياسية إلى إيران حتى بعدما اندلعت حرب الأعوام الثمانية المريرة بينها وبين العراق، ويقيناً إن هذا الانحياز كان بالإمكان أن يبقى متواصلاً ومستمراً حتى بعد الغزو الأميركي وإسقاط نظام صدام حسين لو لم يبدأ الإيرانيون سعيهم المبكر لتحويل الشيعة العرب في كل أماكن وجودهم إلى بؤر مسلحة، وكما أصبح عليه وضع «حزب الله» اللبناني، و«قوات بدر» العراقية، والحوثيين في اليمن، وكل هذه الفصائل الطائفية التي تكاثرت لاحقاً بإشراف حراس الثورة الإيرانية وما يسمى «فيلق القدس» بقيادة الجنرال، الطرزاني، قاسم سليماني.


ثم وإن الأخطر أن إيران، بدل أن تتحول إلى «مثابة» إسلامية عامة وللمسلمين كلهم، السنة والشيعة، قد بادرت باكراً بعد انتصار ثورتها مباشرةً، إلى عملية فرز طائفي يتّكئ على أحقاد مذهبية قديمة غالبيتها، إنْ ليس كلها، مصطنعة وغير حقيقية أدت إلى كل هذا التناحر الدموي من طرف واحد وبرعاية قاسم سليماني وحسن نصر الله وهادي العامري الذي رأيناه وللأسف ولا نزال نراه في العراق وفي سوريا وفي اليمن وفي لبنان والذي بدأ يتمدد في اتجاه المغرب العربي، حيث تحدثت معلومات بما يشبه التأكيد عن أن الإيرانيين باتوا يحشرون أنفسهم في خلاف الـ«بوليساريو» والصحراء الغربية بين الدولتين العربيتين الشقيقتين، الجزائر والمملكة المغربية.
والأخطر حقاً أن إيران لم تكتفِ بمجرد التدخل العسكري في العراق وفي سوريا وفي لبنان واليمن ولم تكتفِ بكل عمليات الحقن الطائفي بين السنة والشيعة بل إنها ذهبت بعيداً في تآمرها باللجوء إلى سياسة تفريغ «ديموغرافي» مذهبي وبقوة السلاح إنْ في سوريا وإنْ في العراق أيضاً، وهذا واضح ومعلن وإلى حدّ أنه صدر ومن طهران نفسها تأكيد أن إيران باتت تحتل أربع عواصم عربية، والمقصود هنا: بغداد ودمشق وصنعاء وبيروت... تضاف إليها كابل، العاصمة الأفغانية.
لقد بات واضحاً ومعروفاً، وهذا يفاخر به الطائفيون الإيرانيون وعلى رؤوس الأشهاد وبلا أي خجل ولا وجل، أنَّ إيران تسعى وبالقوة إلى «مذهبة» هذه المنطقة كلها وإلى إضفاء ردائها الطائفي على المشرق العربي بأسره، وعلى غرار ما كان عليه الوضع في عهد «القرامطة» و«الحشاشين» بقيادة الحسن الصباح الذي اتخذ من قلعة «ألْموت» مركزاً لعملياته الإرهابية.
إنَّ هذا ليس نكأً للجراح، بل إنها عودة للإشارة إلى بعض حقائق التاريخ، لتأكيد أنَّ إيران، وليس الشيعة ولا الطائفة الشيعية العربية الكريمة التي لها التقدير والاحترام، قد دأبت على أن تلعب لعبة خطيرة وأنها من خلال كل هذا الذي تفعله تسعى لإقحام هذه المنطقة وأهلها في صراع طائفي مدمّر قد لا ينتهي إلا بعد سنوات طويلة، وهو لن يكون إلا في مصلحة إسرائيل ومصلحة هذه الدولة الإسرائيلية التي هي بدورها دولة عنصرية لا تقبل بالآخرين مثلها مثل هذه الدولة الإيرانية في هذا العهد وفي هذه المرحلة.


وعليه، فإن المقصود بهذا السرد كله هو الإجابة عن السؤال الذي تم تداوله في الآونة الأخيرة وهو: «مَن الأخطر علينا كعرب يا تُرى... هل هي إسرائيل أم إيران»؟! وحقيقةً، إن ابتلاع هذا السؤال هو أصعب وأكثر إيلاماً من ابتلاع الشوك، فالمفترض أن الجواب يجب أن يكون تلقائياً... أنه لا خطر علينا أشد من هذا الخطر الصهيوني الذي هو خطر وجودي، لكن ما العمل ما دام هذا النظام الإيراني المنتفخ بالأورام المذهبية وبالعُقَد التاريخية، لم يترك أمامنا أي مجال إلا القول وبصوت مرتفع إنه بتطلعاته الحالية والمستقبلية لا يقل خطراً على العرب من الخطر الإسرائيلي، وهذا إنْ هو لا يتجاوزه ما دام أن استهدافه لنا أخطر من استهداف الحركة الصهيونية وما دام أن عمليات التفريغ على الأسس الطائفية والمذهبية الجارية في سوريا والتي كانت قد جرت في العراق ستقحم هذه المنطقة كلها في حروب قذرة كالحروب التي أشعلتها حركة حمدان قرمط وكانت نتائجها كارثية.
أمّا لماذا...؟ فإن الجواب واضح ومعروف، وهو أن إسرائيل مهما حاولت ومهما فعلت ومهما وظّفت من إمكانات فإنها لا تستطيع اختراق نسيجنا العربي الاجتماعي ولا نسيجنا الإسلامي، لا السني ولا الشيعي، اللهم إلا بحدود اصطياد بعض الجواسيس والمأجورين... أما إيران فإن لديها من المعطيات والإمكانات ما يجعلها قادرة على اختراق لُحمتنا الدينية والاجتماعية، والدليل هو هذا الذي فعلته وتفعله في سوريا وفي العراق وفي اليمن... وفي لبنان، مما يعني، إذا أردنا أن نكون صرحاء ونقول الحقيقة، أنها بهذا الذي تفعله أكثر خطراً علينا من الخطر الإسرائيلي مع أن إسرائيل لا تزال وهي ستبقى خنجراً مسموماً في قلب الأمة العربية... وإلى أبد الآبدين!