صالح الديواني

التحولات السياسية في المنطقة أثبتت أن الكذب الإعلامي صنع فجوات عميقة وهائلة في قناعات الشوارع العربية، سرعان ما ابتلعت كالزيف، وقد دلّ عليها ردة فعلها، حينما سقط من ظنوا أنهم القادة العظماء في طرفة عين

«اكذبْ ثم اكذبْ حتى يصدقك الناس» (جوزيف جوبلز)، صانع الدعاية الألمانية الأشهر عبر التاريخ للنظام النازي الذي قاده أدولف هتلر في ألمانيا. 


هذا التأكيد على جدوى تأثير الكذب على الشعوب، أيّا كانت عبر الإعلام، تحقق تاريخيا في أكثر من موقع في العصر الحديث، على الرغم من زعمنا بتقدم المعرفة وسهولة وسرعة الحصول على المعلومة، وتشير كل الدلائل إلى جدوى ذلك في لحظته ووقته، بفعل التقدم التكنولوجي والتقني، إذ نجح مثلا الرئيس الأميركي جورج بوش في نشر الأكاذيب «عن الأسلحة النووية والكيميائية العراقية»، كما أشرت في مقالتي السابقة، إبان غزوه العراق في الـ19 من مايو 2003، وفي الفترة نفسها تألق وزير الإعلام العراقي «محمد سعيد الصحاف» صاحب شهرة مصطلح «العلوج» الذي كان يقصد به جنود الجيش الأميركي الغازي، ودحرهم وقتلهم وملاحقتهم كالجرذان في شوارع بغداد وجبهات القتال، بحسب زعمه يومها، وليس ببعيد عن ذلك ما صنعه إعلام حزب الله في جنوب لبنان عبر بثه بيانات وخطابات زعيمه حسن نصر الله، الذي صور في لحظة ما قد ذهبت، وعبر مقاطع الأناشيد الحماسية اللاهبة والمارشات العسكرية لميليشياته، أن إسرائيل ستزول من على الخارطة خلال ساعات، كما كان يقول في يوليو 2006، والتي شهدت آخر عهد بمعاداة الحزب لإسرائيل!
اليوم، تستمر الآلية الإعلامية في لعب الدور نفسه، وسط انفتاح العالم على بعضه إعلاميا، بازدياد الوسائل الناقلة للمعلومة صوتا وصورة، وازداد مع ذكاء التكنولوجيا تزوير المعلومات بشكل خطير جدا، ويبدو أن البسطاء فقط من باتوا يصدقون كل ما يقال ويتم تداوله عبر وسائط الاتصال. وقد لعبت الإشاعة لعبتها فيما عُرف بـ«الربيع العربي» في: تونس ومصر وسورية وليبيا واليمن، مع ملاحظة التفاوت الثقافي وتعداد السكان بين هذه الدول. ويأتي الحوثيون في اليمن حاليا كأبرز الناشرين للكذب على الشعب اليمني والعالم، عبر الإعلام الذكي الذي يكشف سخافة التفكير السياسي لهم، وليس أدل على ذلك من استخدامهم القضية الفلسطينية للمزايدة بها على العالمين، وعلى الشعب اليمني قبل ذلك، في الوقت الذي هُم فيه بحاجة إلى من ينقذهم من الغضب العربي الذي يوشك على هدم مشاريعهم الخادمة للمصالح الإيرانية في المنطقة. فأن يسأل المذيعُ المقاتلَ عن طريق القدس، فيجيب الأخير: إن طريقها يمر عبر محافظة «أبين» جنوب اليمن، بينما القدس إلى الشمال من الخارطة، فهذه أم الحيل العاطفية التي يستخدمها المرتزقة بسذاجة!


ومن المضحك أن يظهر الإعلام الحوثي بتطابق النبرة نفسها التي يرددها إعلام النظام الإيراني وحزب الله. إننا في الواقع أمام حالة غباء عميقة حين يصدق عدد كبير من الجماهير هذه الزاوية الشعاراتية التي سوّق لها اليسار العربي عبر عقود طويلة، والذي نجح في صنع قاعدة عريضة من الجيوش الصوتية العربية والعالمية.
الواضح من خلال النماذج المذكورة، أن الآلة الإعلامية تستطيع التغلب على أية طبقة اجتماعية، حينما تجد الوسيلة والطريقة الملائمتين لفعل ذلك، والواضح أكثر أن هذه الآلة متفوقة جدا، ولا تعترف بالفروقات الفكرية أو الثقافية، وتضع الجميع في نهاية الأمر في سلة واحدة. 
ولقد تمكن الكذب من فرض نفسه على الأجندات السياسية في العالم عبر التاريخ، وبالتالي اُبتُليت المجتمعات -على اختلافها- بهذه الآفة، وهو فرض منطقي جدا عند السياسي الانتهازي، وفي ظل وجود مزيد من الوسائل الناقلة والناشرة، سيكون الانتهازيون حتما أكبر المستفيدين من غياب المعلومة الصحيحة وانتشار الأخبار المزيفة.
المثير جدا أن التحولات السياسية في المنطقة أثبتت أن الكذب الإعلامي صنع فجوات عميقة وهائلة في قناعات الشوارع العربية، سرعان ما ابتلعت كالزيف، وقد دل عليها ردة فعلها حينما سقط من ظنوا أنهم القادة العظماء في طرفة عين، ولكم في اختفاء كل الجماهير التي كانت تهتف بحياة رؤسائهم. أمثلة لن تغيب أبدا عن التاريخ والذاكرة العربية. السبب ببساطة، لم يكن هناك شيء حقيقي، فقد زيف الإعلام كل شيء واختطف المجتمعات فترة من الزمن، ثم انكشف.