عزيزة عبد العزيز منير

من منَا لا يتذكر الصورة التي جمعت قادة أكثر من 40 دولة في مسيرة حاشدة في العاصمة الفرنسية باريس للتأكيد على نبذ العنف والإرهاب إثر مقتل رسامي الكاريكاتير في صحيفة «شارلي ابدو» الفرنسية الساخرة في مطلع عام 2015؟ لم تفارق هذه الصورة ذهني وأنا أتابع ردود فعل المجتمع الدولي السلبية إزاء إرهاب الدولة الذي مارسته إسرائيل ضد المدنيين العُزَل الذين تظاهروا في غزة ضد قرار الرئيس الأميركي افتتاح السفارة الأميركية في القدس! هذه المقارنة بين ردود الفعل في الحالتين لا تفضح فقط ازدواجية معايير المجتمع الدولي الذي انتفض شجباً للإرهاب في فرنسا بينما لم يُحرك ساكناً تجاه القتل غير المبرر للمتظاهرين الفلسطينيين، ولكن تكشف أيضاً عن عدم موضوعية الإعلام العالمي عموماً والإعلام الأميركي خاصة!

فوفقاً للكاتب توماس فريدمان في مقاله في «نيويورك تايمز» تحت عنوان «الانخداع بمغالطة الشاشة المنقسمة لحماس»، يقع اللوم على الفلسطينيين أنفسهم في ما يتعلق بمقتل 60 منهم وجرح الآلاف في التظاهرات التي انطلقت في غزة عقب افتتاح السفارة الأميركية في القدس الشرقية. يمضي الكاتب في تبريراته غير المنطقية لإرهاب دولة الاحتلال قائلاً إن مسؤولية قتل المتظاهرين «لا تقع على القناصين الذين صوّبوا أسلحتهم وأطلقوا النيران عليهم، بل إن المتظاهرين ضحوا بأنفسهم ليكونوا مجرد صور لقتلى وجرحى تستخدمها حماس في الدعاية الإعلامية لها». وفي تلك الصورة التي يرسمها فريدمان للفلسطينيين كمجرد بيادق على رقعة شطرنج تتحكم بها حماس، فتدفعهم للتظاهر وبالتالي للموت حتى تستغل جثثهم لكسب التعاطف العالمي، تشويه بالغ ومُضلل لحقيقة الأمر في غزة حيث يخضع ما يقرب من مليوني فرد لحصار عسكري خانق منذ 11 عاماً من دون كهرباء أو مياه أو خدمات أساسية، ويرزح حوالى 80 في المئة من السكان تحت خط الفقر المدقع. وعلى غرار فريدمان، تمايزت التغطية الإعلامية العالمية لتظاهرات غزة بالغموض والانحياز الواضح ضد الفلسطينيين. فمثلاً أشارت CNN إلى ارتفاع «حصيلة القتلى» في «اشتباكات» بين الإسرائيليين والفلسطينيين من دون تحديد مَن القاتل المجرم ومَن الضحية ومن دون الإشارة إلى التفاوت البالغ في قوة الطرفين!

كذلك سيطرت الرواية الإسرائيلية نقلاً عن جيش الاحتلال على تغطية BBC البريطانية لأحداث غزة في ظل غياب للصوت الفلسطيني أو اختزال الرأي الفلسطيني في رأي قادة حماس فقط وكأن الأمر لا يهم جميع الفصائل الفلسطينية. أما التغطية الفرنسية كالتي غطتها صحيفة La Croix فقد أشارت إلى قتل جنود الاحتلال الإسرائيلي للمتظاهرين الفلسطينيين وإلى الاستخدام المفرط للقوة من الطرف الإسرائيلي، إلا أنها على الجانب الآخر أبرزت الرواية الإسرائيلية بأن المتظاهرين إرهابيون ينتمون إلى «حماس» وقد قُتلوا إثر محاولتهم اقتحام الحدود بين غزة وإسرائيل!

إن مثل هذه التأطيرات لتظاهرات غزة في الإعلام الغربي لا تعفي إسرائيل من المسؤولية تجاه مقتل المتظاهرين فحسب، بل تضع اللوم على الضحية وتُبرر مصيرها. ويبدو أن إلقاء اللوم على الضحية ليس مستغرباً في ضوء تنصل المجتمع الدولي من المسؤولية الثقيلة التي تقع على عاتقه في ما يتعلق بالوضع في فلسطين منذ وعد بلفور عام 1948 مروراً بفشل المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة في التوصل إلى حل عادل للقضية الفلسطينية بل وانحيازه لسياسات القمع والاستيطان والفصل العنصري الإسرائيلي.

كما لا يمكننا فصل هذه التأطيرات التي يوضع فيها الفلسطيني في الإعلام الغربي بعيداً من الإرث الاستشراقي الذي ما زال يؤمن به قطاع واسع من النخب في الغرب تجاه الشرق الأوسط، منها تصوير الشرقي بأنه غاضب ومُلثم من دون مبرر- كما حدث في تظاهرات غزة- بينما الإسرائيلي متحضر ومتمدن يدافع عن حدوده ويحمي نفسه من تهديد الفلسطيني. وعلى رغم انتشار وسائل التواصل الاجتماعي ولعبها دوراً بارزاً في صنع الخبر وترويجه، إلا أن اللوبيات الصهيونية ما زالت تؤثر في الكثير من وسائل الإعلام التقليدية وواسعة الانتشار، ما يسهم في إبراز السرديات الإسرائيلية للوضع في فلسطين وتضييق الخناق على الصحافيين المناصرين للقضية الفلسطينية.

* كاتبة مصرية