جورج سمعان

نذر المواجهة الواسعة والمباشرة في المنطقة نضجت ظروفها. وهناك ما يشبه الإجماع على أنها حتمية، على رغم أن لا أحد يرغب فيها. فتيل التفجير قد يشعله حادث عرضي أو خطأ في الحساب، أو في أسوأ الحالات شعور أحد المتصارعين بأن لا خيار سواه للخروج من هذه المآزق، وهذا الاستعصاء السياسي الكبير. يحتاج نزع الفتيل إلى انعطافة لا بديل منها.

وإلى قرار بإعادة الحياة إلى سياسة دولية واقعية ونشطة ومتعددة الأطراف من أجل تسوية الأزمات المشتعلة. ما فاقم الاستعصاء ترابط الأزمات المعلقة من سنوات، من اليمن إلى سورية والعراق وغيرها من دول المنطقة. وأدى انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي والمطالب التي رفعتها إلى إيران إلى شد الرباط بين هذه الأزمات. وقد رد المرشد الأعلى للثورة الإسلامية بشروط طرحها للبقاء في الاتفاق الذي وصفه وزير خارجيته جواد ظريف بأنه في موت سريري. ولا يقتصر الصراع على هذين الطرفين. الدول الأوروبية الثلاث المعنية، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، تخوض معهما معركة لا سابق لها للحفاظ على هذا الإنجاز الذي استنفد وقتاً طويلاً، وكانت لواشنطن الباع الطولى في تحقيقه قبل نحو ثلاث سنوات. ومثلها الصين وروسيا اللتان ستكونان المستفيد الأكبر تجارياً من غياب الأميركيين. وقد عقد ممثلون لهذه الدول الخمس ولإيران لقاء في فيينا آخر الأسبوع الماضي في محاولة للحفاظ على الاتفاق.


ليس في الأفق الآن ما يشير إلى احتمال نجاح الدول الأوروبية في اجتراح صيغة يمكن أن توازن بين موقفي كل من الولايات المتحدة وإيران وترضيهما معاً. وهي لا ترغب بالطبع في خوض حرب اقتصادية مع الضفة الأخرى من الأطلسي، ولا تملك أصلاً وسيلة ناجعة لمواجهة سياسة العقوبات. وليس بمقدورها تالياً استجابة شروط المرشد علي خامنئي للحفاظ على الاتفاق. إضافة إلى رغبتها هي الأخرى في مناقشة سبل تقييد برنامج طهران الصاروخي ووقف تدخلاتها في المنطقة العربية. على رغم هذه الصورة القاتمة، لم يغلق رافعا المطالب والشروط مبدئياً باب الحوار. التشدد ورفع السقف وسيلتهما للضغط وتعزيز المواقف والمساومة مبدئياً. لكن السؤال كيف سيحدث اختراق هذا الاستعصاء؟ ومن سيدفع بالديبلوماسية إلى المقام الأول. المطالب الأميركية تضع الجمهورية الإسلامية أمام خيارين أحلاهما مر. فإن هي رضخت تجازف بخسارة كل أوراق القوة التي تملك، الأمر الذي يهز تركيبة النظام وأهله. وإن هي عاندت واجهت حصاراً قد يفاقم مشكلاتها الاقتصادية والاضطرابات الداخلية. وإذا استأنفت برنامجها النووي تصبح «الحرب الحتمية» خياراً يقود إلى النتيجة نفسها وإلى خراب الإقليم وتعميم الفوضى.

والسؤال هل يرضخ المرشد علي خامنئي للشروط الأميركية ويقبل بالبحث في اتفاق نووي جديد، وفرض قيود على برنامج بلاده الصاروخي ووقف سياسة الهيمنة في المنطقة العربية؟ بعيداً من التصريحات النارية والتهويل المتبادل بحروب كاسحة بين إيران من جهة وإسرائيل والولايات المتحدة من جهة أخرى، تدرك القوى السياسية المختلفة في طهران أنها قد لا تقوى على مواجهة «أقسى عقوبات في التاريخ». كما لا يسعها أن تخوض حرباً مباشرة وغير متكافئة، وليس بالوكالة هذه المرة، مع الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل؟ علماً أن سياسة الحصار كانت وراء قبول المرشد الأعلى والتيار المتشدد بالتفاوض في البرنامج النووي ثم إبرام الاتفاق مع الدول الخمس الكبرى وألمانيا. في المقابل، لا يسع إدارة الرئيس ترامب خوض حرب واسعة وشاملة في الإقليم فيما تستعد لسحب قواتها من سورية وإخلاء أكثر من عشرين قاعدة شرق هذا البلد. وفيما تستعد للانتخابات النصفية للكونغرس آخر هذه السنة، والتي يخشى الحزب الجمهوري أن يمنى فيها بخسارة جراء سياسات ساكن البيت الأبيض.

كان المصفقون للرئيس ترامب يتوقعون أن تثمر حملته على إيران انعطافة تقودها إلى محادثات جديدة تستجيب المطالب التي قدمها إليها وزير خارجيته مايك بومبيو. كانوا يشيرون إلى «ثمار» سياسته المتشددة وتلويحه بالحرب النووية على كوريا الشمالية. لكن بيونغ يانغ جنحت إلى مقاومة مطالب الرئيس ترامب الذي اضطر إلى إلغاء القمة المقررة بعد أسبوعين مع نظيره الكوري الشمالي. وقد صدق الذين توقعوا أن يترك انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي أثراً سلبياً على موقف كيم جونغ أون. فهو الآخر رفع سقف تحديه للولايات المتحدة متوكئاً على موقف الصين وكذلك على موقف روسيا. ولا ريب في أن موقف هذين البلدين لعب دوراً في دفع الزعيم الكوري إلى طاولة الحوار بعد ضمان توفير مظلة أمان لنظامه. فكلا البلدين يجهد إلى اقتطاع موقع متقدم في رسم صورة النظام الدولي الجديد، وإلى أداء دور مواز لدور أميركا في إدارة شؤون العالم. كما أنهما يدركان جيداً أن الحربين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة في أفغانستان ثم العراق، والضربة التي هزت اقتصادها والأسواق العالمية، فضلاً عن الأزمات التي فجرتها العواصف العربية، نتائج، كلها عوامل رسخت واقع عجز واشنطن عن رسم صورة النظام الدولي الجديد وقيادة العالم وحدها. وتجلى هذا العجز في عنوان استراتيجية الرئيس السابق باراك أوباما الذي عبد بسياساته الطريق أمام القوى الدولية الأخرى لممارسة دورها في إدارة شؤون العالم. واليوم، على رغم أن خلفه ترامب يتباهى بالانقلاب على هذا النهج، إلا أنه بقراراته الانسحاب من المواجهات العسكرية الدائرة في أكثر من مكان يخلي الساحة عملياً لقوى أخرى، مترجماً هذا النهج. وهكذا تصاعد ويتصاعد الدور الروسي في سورية وآسيا الوسطى وأفريقيا وغيرهما من مناطق العالم. ومثله دور الصين وقوى إقليمية كبرى في أنحاء أخرى من العالم. ولا شك في أن إلغاء الرئيس ترامب لقاء القمة مع نظيره كيم جونغ أون يعزز دور الصين واليابان وكوريا الجنوبية في تبريد التوتر وإعادة إحياء موعد القمة بين الزعيمين.

أحسنت الصين في صراعها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة. وعرفت كيف تساوم بالاستناد إلى قواها الاقتصادية، وإلى أوراق أخرى كثيرة، وبينها دور المساومة الذي تؤديه في الأزمة الكورية. فهي لا تريد وحدة شبه الجزيرة برعاية أميركية، ولا ترغب في ابتعاد بيونغ يانغ من فلكها بمواجهة خصوم كثر ينازعونها على بحر الصين. فضلاً عن حرصها على صورتها عامل استقرار وسلام دوليين. وأدت دوراً في دفع الزعيم كيم إلى الخروج من خانة التشدد. ولا ريب في أن الرئيس فلاديمير بوتين ماض في مشروع استعادة بلاده دورها الدولي المتقدم والندي لدور الولايات المتحدة. ولا يزال يأمل باستثمار كلمته العليا في سورية من أجل إبرام صفقة مع واشنطن. وكان لافتاً تصريحه الأخير بأن نظيره الأميركي «لم يغلق الباب أمام التفاوض مع إيران». واعتبر أن القضية «تكمن في أنه ليس راضياً عن أمور كثيرة، لكنه لا يستبعد التوصل إلى اتفاقات» مع طهران. والسؤال هل يمكن سيد الكرملين أن يؤدي دوراً في الأزمة القائمة مع طهران، خصوصاً أنه حذر في المنتدى الاقتصادي الدولي في بطرسبورغ من تدمير الاتفاق النووي، وحض على العمل مع جميع المعنيين به خصوصاً واشنطن لإنقاذه؟

هناك مصلحة روسية في ألا تعم الفوضى منطقة الشرق الأوسط إذا ما وقعت المواجهة الواسعة والمباشرة بين إيران وخصومها. لذلك كان العالم ولا يزال يراقب كيف ستزيل فتيل التفجير الإقليمي المتصاعد في الميدان السوري. وقد بدد الرئيس بوتين أخيراً الشكوك في قدرته على التحكم بالوضع في بلاد الشام. وخطا باتجاه إحياء التفاهم مع البيت الأبيض. طالب صراحة بخروج كل القوات الأجنبية والميليشيات من سورية، بما فيها الإيرانية. ودفع الرئيس بشار الأسد إلى التعامل بجدية مع التسوية السياسية، ووقف المماطلة ومماشاة تمسك طهران وحلفائها بالحسم العسكري. ولا يرجح في أي حال أن تقاوم إيران دعوة الانسحاب، خصوصاً في هذه الظروف بعد الخروج الأميركي من الاتفاق النووي وإطلاق يد إسرائيل في الإغارة على مواقع «الحرس الثوري» والحزب. ففي النهاية لا يمكن الجمهورية الإسلامية أن تخوض الحرب في جبهات عدة. ولو كانت عازمة على مواجهة الدولة العبرية لكانت تذرعت بغاراتها المتكررة من أجل إشعال الساحة في المنطقة كلها. كما أنها تشارف على خسارة كلمتها الأولى في تقرير مستقبل الحكومة والحكم في العراق بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة. فإذا قدر للسيد مقتدى الصدر أن يحوز رضا المرجعية في النجف فلن يكون بمقدور قاسم سليماني بـ «حرسه» أن يقف بوجهها ووجه الناخبين العراقيين الذين منحوا أصواتهم لتحالف «سائرون». فهو رضخ قبل أربع سنوات وضحى بحليفه نوري المالكي الذي كان يطمح إلى ولاية ثالثة. ويواجه «أنصارها» الحوثيون في اليمن ضغطاً عسكرياً كبيراً لم يألفوه من قبل لدفعهم إلى الجلوس إلى طاولة البحث عن تسوية سياسية.

لن تسمح الدول الكبرى من الصين إلى روسيا والغرب عموماً لإيران بأن تستأثر ببناء النظام الإقليمي. إنها مهمة يكاد يعجز عنها الكبار. وإذا كانت الصين لعبت دوراً محوريا ولا تزال، بمساعدة جيرانها، في خفض التوتر في شبه الجزيرة الكورية ودفعت المتصارعين إلى الطاولة، فإن روسيا قد تنجح في تبريد الساحة السورية لمنع الانفجار الواسع. وقد لا تجد إيران مفراً من اعتماد الخيار الكوري الشمالي. فما يحدث هناك لماذا لا يحدث هنا؟ ومن يستعد للقاء الزعيم كيم لماذا لا يلتقي المرشد أو الرئيس حسن روحاني؟