وليد شقير

بات على إيران أن تختار بين المواجهة وبين التسوية مع الأميركيين ودول الخليج العربي.

قد يكون هامش المناورة التي يجيدها العقل الفارسي ما زال قائماً بمساحة واسعة باتساع الرقعة الجغرافية العربية التي سبق أن اكتسبتها طوال ٣ عقود وأكثر من التوظيف المتعدد الألوان، العسكرية والدينية والإيديولوجية والمالية والاقتصادية. هذا فضلا عن الدهاء في استغلال المتغيرات الدولية كما فعل مع إدارة باراك أوباما. إلا أن هذا الهامش سيضيق مع الوقت بوجود إدارة من نوع إدارة دونالد ترامب، ومع وجود قرار عربي، ولا سيما سعودي بمواجهة توسعها وتمدد أذرعها في الدول العربية.

من الحديدة في اليمن حيث انكشف مدى ضعف المراهقة الحوثية، إلى نتائج الانتخابات العراقية التي تحاول طهران الالتفاف عليها في صراعها مع الهوية العربية لمكونات بلاد ما بين النهرين، وصولاً إلى الضغوط لانسحابها من سورية، وانتهاء بالعقوبات على ذراعها الرئيسية «حزب الله»، لا يبدو أن الإمبراطورية «الساسانية» التي تغنى مسؤولون إيرانيون بأنها عادت إلى التبلور مرة أخرى بعدما أفلت في القرن السابع الميلادي، بخير. والأهم أنها تعاني الضعف والمشكلات في الداخل. ويشهد على ذلك تدهور سعر صرف العملة في ظل عجز المصرف المركزي في طهران عن ضبط انخفاضها الدراماتيكي، وضمور الاقتصاد، وازدياد التحركات الشعبية، الاجتماعية والطبقية والعرقية، من داخل « الثورة الإسلامية « ومن معارضيها، ومن خصومها الداخليين قبل الخارجيين. ولا يكاد يمر يوم من دون تظاهرات في المدن الإيرانية التي ازدادت فيها البطالة. لم تكد مداخيل إيران ترتفع بحكم رفع العقوبات عن قطاعها النفطي الذي تعتمد عليه في شكل رئيسي، بعد الاتفاق على النووي عام 2015، حتى جاء انسحاب الولايات المتحدة منه وإعادتها العقوبات أشد قساوة وإيلاماً. لم يستفد الحكام من ارتفاع الدخل في السنوات الثلاث الماضية من أجل توسعة الاقتصاد، بل وظفوا المداخيل في التوسع الإقليمي.

وإذا صح خبر وكالة «إيلاف» الإلكترونية عن لقاء إيراني- إسرائيلي في الأردن قبل مدة، فإنه مؤشر أساسي إلى التأزم الإيراني، مقارنة بالعنجهية الفارسية المستندة إلى ذلك الشعور القومي الدفين بالتفوق على الجيران العرب وبازدرائهم.

قد تتمكن طهران من استيعاب خسارتها لمكون أو أكثر من المكونات العراقية التي أحسنت في السنوات الماضية تقسيمها وشرذمتها للاحتفاظ بنفوذها، أو التعايش مع بعض التغييرات في بغداد، وهذا ما تحاوله الآن. الساحة الأكثر حساسية لنفوذها ودورها الإقليمي هي الساحة السورية، صلة الوصل بين طهران مروراً بالعراق والساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط في لبنان، والتي وظفت فيها بلايين الدولارات، لا سيما بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة عام 2000. هذه الساحة هي السبب الرئيس في نظر واشنطن للضغط على طهران من أجل الانسحاب منها، ووقف برنامجها للصواريخ الباليستية. من هذه الساحة تتهم واشنطن إيران بتهديد أمن إسرائيل، وزعزعة استقرار الدول العربية الحليفة. وفي هذه الساحة تناور موسكو في علاقاتها مع واشنطن، وتطلب من حليفها الإيراني الانسحاب من سورية، بموازاة تحضير الأميركيين للانسحاب من بلاد الشام قبل نهاية العام. وما تسرب لمجلة «نيوزويك» عن استعداد واشنطن لسحب بعض قواتها من محيط معبر التنف على الحدود العراقية السورية، يؤشر إلى جدية دعوة فلاديمير بوتين بعد اجتماعه مع بشار الأسد قبل أسبوعين، إلى انسحاب القوات الأجنبية من سورية، والمقصود به الانسحاب الإيراني، و «حزب الله» في الدرجة الأولى (إضافة إلى القوات التركية والأميركية). ولدى قادة «حرس الثورة» الإيرانية الكثير من الأسباب لعدم إدارة الظهر للنفوذ الروسي في سورية، مع التسويات التي قد تلجأ إليها موسكو مع واشنطن. فالأخيرة قد تزود موسكو بالأوراق مثل الاستعداد لسحب قوات لها، كي تساهم في الحد من النفوذ الإيراني، فبعض الميليشيات التي أنشأها الحرس جرى تقليم أظافرها في الآونة الأخيرة من قبل الشرطة العسكرية الروسية لدمجها في الوحدات العسكرية الواقعة تحت نفوذ قاعدة حميميم.

ولديهم أسبابهم أيضا كي لا يأمنوا لنظام الأسد المستعد للمساومة على الحليف الفارسي مقابل البقاء.

بين خياري المواجهة أو المساومة، قد تلعب القيادة الإيرانية ورقة التواصل مع إسرائيل لطمأنة الأخيرة إلى أمنها إذا كان هذا ما يدفع واشنطن إلى تصعيد الضغوط عليها، مقابل عدم المس بنفوذها في سورية. ليست المرة الأولى التي تلجأ فيها طهران إلى صفقة موضعية مع إسرائيل تحت مظلة العداء لها في العقدين الأخيرين. وهذه اللعبة الجهنمية لإنقاذ نفوذها، خاضعة للمراقبة في قابل الأيام.