خالد العضاض

يمكن أن نقول، إن الصحوة صنعت تحولًا، أنتج خطابًا موازيًا ومعارضًا للخطاب الديني السعودي العام، حتى ولو كان هذا التحول لم يتجاوز مستوى الحركة والتنظيم فقط

(1)
حينما تحلل -من خلال التاريخ والاجتماع- الحركة المعرفية والثقافية في العالم الإسلامي، الممتد من المغرب العربي وحتى إندونيسيا، مستحضرا الجغرافيا كآلة فرز وتجزئة، ستجد أن لكل قُطر طبيعة مستقلة في التعامل مع الأفكار والقضايا والأحداث، وستجد أن لكل قطر خطابه الديني الخاص داخليًا وخارجيًا، الذي يؤثر عليه الخطاب السياسي العلماني بشكل يحيد الخطاب الديني بشكل مستمر إلا في مناسبات معينة، ما عدا المملكة العربية السعودية، والتي يحتل فيها الخطاب الديني مكان الصدارة.
(2)
التعاطي مع الأفكار أيّا كان نوعه، حينما ينتج عنه عملٌ كالكتابة والتأليف أو الحوار العام والأخذ والرد، يولّد حراكًا ثقافيًا في المجتمع، وكلما زادت حساسية الأفكار وملامستها القضايا، وكان الوسيط والناقل للفكرة قويّا، اتسعت مساحة الحراك وتعمقت، فيجب ألا يغيب عن أذهاننا أن الوسيلة الأقوى التي نقلت الخطاب الديني السعودي، وأوصلته إلى شريحة واسعة خارج المملكة، وليس داخلها فحسب، وجعلته منتشرًا هي قوة السياسي السعودي ونفوذه الإقليمي والدولي، مما جعل صوت الخطاب الديني السعودي أقوى وأثره أعمق. 
(3)
هناك خط دقيق بين الثبات المبادئي على الأصالة، ومواكبة التطور أو مشابهة العصر والتقدم زمانيا مع التحضر. فقدان هذا الخط يجعل الأمور تختلط بطريقة بشعة بين ذوبان الشخصية الوطنية والهوية القومية من جهة، والتخلف من جهة أخرى، ومدخل هذا الأوسع هو محاربة الجديد وإقصائه دون فهمه وتفكيكه، ومحاولة توظيفه التوظيف الصحيح.
والأجيال الحالية في السعودية لا تعترف بهذه الإشكالات إطلاقا، فما يمنعه ويحاربه جيل، يأتي الجيل الذي يليه ويتبناه بكل امتياز، وهكذا، والأمثلة كثيرة يطول مقام سردها.
(4)
للجغرافيا في بداية تأسيس المملكة العربية السعودية دورٌ مفصليٌ بعزل المجتمع عن كثير من الأدوات والآليات التي نشأ عليها إسلاميو الأقطار المجاورة في إطار الحركة والبرامج. فتجميع الشباب مثلا ووضع البرامج التربوية والتدريبية، وممارسة المناشط الدعوية، وفقا لتدرج معين، لم يكن يعرفه المحيط الدعوي السعودي قبل الإخوان المسلمين، والذي كان نشاطه مقتصرًا على الوعظ وطلب العلم، وفقًا لمنهجية معينة، وإذا كان جل الوافدين من الإخوان مغايرين للسعوديين عقديًا، فهذا يعني أن هناك اهتمامات علمية مختلفة على مستوى علوم الآلة، وعلى مستوى الكتب، وعلى مستوى العلماء السلف لكل منهما، مما جعل هذا التمايز والتلاقي ينتج خلطات متعددة يطغى فيها جانب على جانب، فحينما طغت الإخوانية على سلفية السعوديين جاءت السلفية الإخوانية، وحينما طغت سلفية السعوديين على الإخوان جاءت السرورية، ومن هذا المدخل تسرب الخطاب الديني الإخواني بشقيه المصري والسوري إلى الخطاب العام السعودي، والذي يضم بين جنباته عدة خطابات متوازية ومتقاطعة، وهو الخطاب الديني الرسمي والخطاب الديني غير الرسمي الذي يشذ به بعض الفقهاء، وهذا داخل الخطاب الديني نفسه، بغض النظر عن معارضة الخطاب السياسي أو موافقته، وأظهر الأمثلة لفحص هذا الأمر تبنّي قيادات الصحوة السعوديون تسييس الإسلام، وهو الأمر الذي لم يكن مقبولا في أي فترة من فترات الدولة السعودية، وأدق من هذا -وبمراجعة سريعة لتاريخ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا- سنجد أنها كانت ومنذ عهد الملك عبدالعزيز معنيّة بقضايا وأمور التنبيه والإرشاد والوعظ على بعض المخالفات في إطار معين، وحينما تغلغلت السرورية في دهاليز الهيئات انقلبت إلى جهاز أمني متكامل، فيه التحري والمباحث وفرق التحقيق والمداهمات، وأحيانًا كثيرة تطبيق العقوبات حينما يشعرون أن المتهم سيفلت من العقاب لو تحول إلى الجهات الأمنية المختصة.
(5)
مما سبق، يمكن أن نقول إن الصحوة صنعت تحولا، أنتج خطابًا موازيًا ومعارضًا للخطاب الديني السعودي العام، حتى ولو كان هذا التحول لم يتجاوز مستوى الحركة والتنظيم فقط، أما على المستوى النظري والفكري، وهو المهم في بناء الشخصية الدينية، فقد جاءت الصحوة بقضايا منهجية ومسائل شائكة، حاولت معالجتها أو حلها، وعجزت عن ذلك، بسبب هشاشة التجربة، والتحديات الكبرى التي واجهتها، وأيضا بسبب استعجال النجومية من قيادات الصحوة، ومحاولة الوصول السريع إلى الأهداف التي لا تخفى على ذي نظر.
كان حراك الصحوة الفكري والتنموي في مجالات الدعوة، والعمل الخيري، والإغاثي، والتعليم والتدريب، مع خلو منطقة المناورة الاجتماعية للسياسي، من أية أوعية مدنية مؤسسية تستوعب أي تمدد ينتج عن الصراع الحتمي والطبيعي للأفكار، إضافة إلى الطموحات غير المحدودة لرموز الصحوة، كفيلًا بإنتاج رموز ترى طريقة الحل الإسلامي، أو فكرة الإصلاح رؤية مغايرة، كما حدث مع جماعة الإخوان المصرية في الستينات، ومن هنا جاء الإرهاب على يد الصحوة، فتحول ابن لادن وأفراد القاعدة ومن بعدهم السلفية الجهادية، ثم الدواعش، إلى الحل والإصلاح بالعنف والتفجير والقتل، وهذا كان نتيجة حتمية لمفرزات الصحوة التي مهدت الطريق النظري إلى الوصول لهذه النتيجة من طريقين: 
الأول: العجز عن الوصول إلى صيغة سلمية تقي المجتمع شرور العنف بسبب الأطماع السياسية لرموزها.
الثاني: ترسيخ وتعزيز كثير من النتائج الفقهية الفروعية في مسائل الأسماء والأحكام والإمامة والطاعة وولي الأمر والبيعة وغيرها، التي كانت تصاغ بطريقة تعزز مكانة الشيخ السياسي بطريقة معينة في ذهنية الجيل، وكأنها تستلهم ولاية الفقيه الخمينية.
(6)
السياسة علم متطور تتغير نظرياته وتتبدل بشكل منتظم، ونظرية الحاكمية التي يقول بها الإسلام السياسي، نظرية مستولدة مضمنة مجموعة من الدلالات والمفاهيم الطارئة بل وغير الناجزة أو المحسومة بحثيًا، غرضها التسويغ لحركة الإسلام السياسي وانتهازيته والشحن التعبوي للشعوب، وهي نظرية لا تتفق مع فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن قبله الوحي القرآني المنزّه، ولا تتفق مع مبادئ علم السياسة الحديث، بل وأبعد من ذلك فهي لا تتفق حتى مع قول أئمة السلف، على رأسهم ابن تيمية -رحمه الله- الذي رفض بحزم وقوة تقديم الإمامية من الشيعة لمسألة الإمامة على سائر مسائل الدين، وأقر بثانوية المسألة لا أصوليتها، وهو ما تضافرت عليه الفتوى السعودية في زمن الشيخ ابن باز -رحمه الله- وما زالت.
والذي يلحظ مسيرة تحولات الخطاب الديني السائد من الإخوانية إلى القطبية ثم الجهادية، يرى نقاط التماس والتلاقي شبه المستتر، بين نظرية الإمامة في الإمامية الشيعية والنظرية الجهادية التي تقوم في أساسها على مسألة الحاكمية.
(7)
لا أرى مشكلة في تداخل الخطاب الديني مع الخطاب السياسي، متى ما فهم الديني وأدرك البعد الإستراتيجي والتكتيكي للخطاب السياسي والفعل السياسي.
ولكن يغلب على الخطاب الديني التخلف عن ملاحقة الخطاب السياسي، وذلك لظروف عدة، أهمها: مباشرة وتلقائية الخطاب الديني مقارنة بدهاء السياسي الذي يحتمه عليه المصلحة والواقع والحال، وكذلك تخلف الديني عن إدراك السياسي للواقع واطلاعه على الظروف الواقعية، والتي تأتي في مقدمتها الظروف الجيوسياسية والنزاعات العرقية 
والإثنية في المجتمعات المجاورة أو المنافسة إقليميًا.
والسياسي السعودي -بحسب إستراتيجيته ومبادئه- ينطلق في الأساس من منطلقات شرعية، تتقاطع بشكل واسع وكبير مع نظرية المصلحة التي طرحها في نهاية القرن السادس الهجري الإمام سليمان الطوفي الحنبلي المتوفى سنة 716، إذ إنه قرر تقديم المصلحة المطلقة على جميع النصوص الشرعية في المعاملات، أما في العبادات فالمعتبر والمقدم فيها النصوص.
أخيرا، فإن مراجعة الخطاب الديني الرسمي وتطويره، سيسهم بشكل كبير في تعزيز مكانة المملكة عالميًا على كل المستويات.