يحيى الأمير

سيظل برنامج (جودة الحياة) أبرز وأهم مبادرات التحول الوطني، الوصف والمصطلح بحد ذاته جديد ونوعي وغير مسبوق في مختلف الخطط والبرامج التنموية.

جودة الحياة والحياة السعيدة هي قيم ومعان أكثر من كونها ماديات محسوسة، بمعنى أنها ناتج عن تفاعل عدة عناصر وأنظمة تؤدي في النهاية إلى حياة مفعمة بالجودة والرضا والاستمتاع.

طالما غابت هذه القيم والأفكار عن خططنا وبرامجنا بل ما هو أكثر من ذلك؛ لطالما سيطرت على مفاهيمنا تلك الأفكار التي لا ترى الحياة إلا عبئا وابتلاء ومجالدة وأدى ذلك إلى غياب قيم الاستمتاع والرضا وحل محلها البحث عن الضروريات والتوسع فيها؛ المنازل الكبيرة والاستهلاك العالي في كل شيء والسيارات الفارهة ورغم ذلك نبحث عن الحياة الجيدة واللحظات السعيدة خارج بلادنا مع إطلالة موسم الصيف أو حتى مع أية إجازة أو فرصة تسمح بالسفر للخارج.

لننظر إلى أبرز العوامل التي ساهمت في تشكيل ذلك الواقع، وهل ستمثل تلك العوامل ممانعة جديدة تحاول إعاقة هذه التطلعات المستقبلية اليوم نحو حياة واعية سعيدة؟

في الواقع يمثل الخطاب الوعظي الفقهي أبرز العوامل التي أسهمت طويلا في تشكيل الوعي العام في الشارع السعودي، فكيف يمكن وصف علاقة ذلك الخطاب بالتنمية وبجودة الحياة وبالمدنية والسعادة؟ بالطبع فإن تعريفه للسعادة يختلف تماما عما نتطلع إليه اليوم جميعا، أما علاقته بالتنمية والمدنية فتكاد تكون منعدمة للغاية، هذه ليست عيوبا في ذلك الخطاب بل هي ناتج من كونه خطابا قديما لا علاقة له بالواقع، وليس منتميا له، ولذلك نجد أن أسلوب الرفض والدفاع والممانعة أمام كل جديد يمثل أبرز صفات ذلك الخطاب. ولدى السعوديين أكثر من غيرهم تجارب طويلة ومتنوعة تحكي كيف كانت المواعظ والفتاوى الرافضة المحرِّمة هي أول ما يواجه به جديد.

ما حدث هو الآتي: تغيرت الحياة وتطور المجتمع وتحرك العالم بينما ظل ذلك الوعظ وذلك الفقه ثابتا وتاريخيا ومجافيا للواقع وغريبا عنه. غربته هذه جعلت منه عنصر مواجهة مع الحياة والمجتمع فلا الحياة ستنتظره ولا هو قادر على بناء وعي جديد ولغة جديدة وانتماء جديد للواقع.

لا يجيد سوى التحريم والتحذير ولا يحمل أية صبغة مدنية يمكن أن تصالح بين الناس وبين حياتهم، ولذلك بات الإصغاء إليه متراجعا للغاية. فاتجه الوعظ للتخويف واتهام المجتمع بأنه ابتعد عن الصواب والخير والحق وأضحى ضالا منتكسا بينما الضال الحقيقي ليس المجتمع ولكنه ذلك الخطاب القديم..

ليس من الصواب ترك هذا الجانب المهم في حياة المجتمع هكذا ليواصل غربته، ولا يمكن الاعتماد على محاضنه ومؤسساته التقليدية في أن تقدم شيئا جديدا على مستوى الوعي والأدوات (وعيها تلقيني وأدواتها تاريخية تراثية ومضامينها بعيدة عن الواقع) وبالتالي فثمة حاجة فعلية لمشروع مواز لكل مشاريع التحول التي نعيشها اليوم، ويستهدف ذلك المشروع تحقيق جملة من الأهداف من أبرزها: إعادة ثقة الناس في تدينهم الطبيعي الفطري وأنه في ظل الدولة المدنية الحديثة يمثل شأنا فرديا خاصا، وأن العلاقة بين الأفراد تديرها القوانين والأنظمة، تلك الأنظمة المستقاة من قيم الإسلام العالمية ومن التنزيل الحكيم والشريعة، إن الدولة الإسلامية هي الدولة القائمة على التنوع والتعدد، إن المجتمعات الحديثة التي ستحقق عمارة الأرض هي المجتمعات السعيدة الواعية المتجانسة وبالتالي القادرة على الإنجاز والعمل والعطاء.

تحقيق أي شيء من ذلك ليس صعبا على الإطلاق، وبالمقابل ليس بالأمر السهل، فالتغيير من نمط إلى نمط يحتاج كثيرا من العمل وإعادة بناء المؤسسات الشرعية وتوسيع دوائر البحث والنقاش دون تبديع أو تفسيق ودعم مختلف أعمال النقد وإعادة قراءة التراث والمدون وتعزيز العودة إلى الإسلام العظيم العالمي المعتدل من خلال التنزيل الحكيم أولا، وربط كل ذلك بالدولة الوطنية الحديثة بصفتها النموذج الأبرز والأهم الذي وصلت إليه الحضارة البشرية.