عبدالله بن بجاد العتيبي 

القرارات الملكية التي صدرت في المملكة العربية السعودية قبل يومين تعدّ استمراراً طبيعياً وتطويراً مهماً في الهيكلة الحكومية التي تشهد تصاعداً ومرونةً في إعادة بناء وتنظيم العمل الحكومي على مستوى المؤسسات كما على مستوى الأفراد.


عملت السعودية الجديدة بجدٍ منقطع النظير وبنشاطٍ متواصلٍ وعملٍ دؤوبٍ على انتقالاتٍ تاريخيةٍ شاملةٍ في كل المجالات، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، وكانت إحدى أهم الخطوات إلغاء المجالس العليا السابقة والاكتفاء بمجلسين؛ واحد للسياسة والأمن والثاني للاقتصاد والتنمية، ثم تواصل البحث عن أي نقصٍ في الأداء الحكومي أو تضاربٍ بين المؤسسات بغية الوصول إلى أفضل أداء حكومي ممكن، وذلك عبر تفكيك بعض الوزارات والمؤسسات المتضخمة أو عبر جمع بعض المؤسسات في هيئات أو وزارات مستقلة، وهو ما عبرت عنه رؤية السعودية 2030 التي يقودها ولي العهد السعودي بنفسه بالقول: «إن إلغاء المجالس العليا في الدولة وتأسيس مجلس الشؤون السياسية والأمنية ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية رفع من الفاعلية والكفاءة وسرعة اتخاذ القرار وسنستمر في الدفع بهذا الاتجاه كي نكون أكثر مرونةً في مواكبة متطلبات الرؤية الوطنية وتحقيق أولوياتها».
كل ما يجري في السعودية مخططٌ له بشكلٍ علني، وليس على المتابع والمهتم إلا مراجعة رؤية السعودية 2030 والبرامج الداعمة لها كبرنامج التحوّل الوطني أو برنامج حساب المواطن أو برنامج جودة الحياة أو نحوها من البرامج، ومن ذلك برنامج إعادة هيكلة الحكومة والذي جاء عنه في الرؤية: «إن نمط هيكلة العمل الحكومي عالمياً يتجه نحو المرونة وإعادة الهيكلة المستمرة لتحقيق وخدمة الأولويات الوطنية. وقد تمّت الانطلاقة فعلياً في هذا المسار... وقد أسهم ذلك في تسريع عملية وضع الاستراتيجيات ورفع كفاءة الأداء وتسريع الإجراءات وعملية اتخاذ القرار، وسنواصل هذا التطوير الهيكلي بصورةٍ شاملةٍ وعلى مراحل بحسب الأولوية».
باهتمام حكومي واضحٍ تطوّرت الأعمال الثقافية والنشاطات الفنية والاهتمام بالتاريخ والآثار والبيئة بشكلٍ ملحوظٍ ومتسارعٍ في ثلاث سنواتٍ، على شكل هيئاتٍ ومؤسساتٍ وباستثماراتٍ معلنةٍ ضخمةٍ، فكان التطور الطبيعي أن يتوّج ذلك بالأمر الملكي الذي أعلن تأسيس وزارة جديدةٍ للثقافة كنتيجةٍ طبيعيةٍ للتطورات السابقة، والثقافة أكبر من أن تكون ملحقةً بالإعلام فقط، وتم اختيار الأمير الشباب بدر آل فرحان ليكون على رأس هذه الوزارة بخبرته ونجاحاته في كل المناصب التي تقلّدها من قبل ليقود مجالاً حيوياً ويطوّر الطموحات الكبرى لإنعاش الثقافة وتنظيمها، وليحقق الأحلام والمشاريع المهمة مستقبلياً لوضع أسسٍ جديدةٍ تتواكب مع الرؤية وتدفع باتجاه تحقيقها.
اختيار الأفراد لقيادة المؤسسات والمشاريع، ومراجعة هذه القرارات بفاعلية وشفافية، كما هو معلنٌ في الرؤية باتا نهجاً ثابتاً للحكومة السعودية، واختيار الأنسب بحسب المتغيرات والطموحات هو الذي يحكم كل الأوامر الملكية التي خرجت بتعييناتٍ جديدةٍ شملت عدداً من الوزارات والهيئات الحكومية.
في مجال الاهتمام بالتاريخ والتراث والآثار والمقدسات، جاء في الأوامر الملكية الإعلان عن هيئةٍ ملكيةٍ لمكة المكرمة والمشاعر المقدسة، وإدارة لمشروع جدة التاريخية، وفي مجال العناية بالبيئة والمحميّات الطبيعية، جاءت الأوامر الملكية بإنشاء مجلس للمحميات الملكية يعيد تنظيم هذا القطاع الفعّال والحيوي بما يقضي على كل التجاوزات أو القصور الذي كان يعتري العمل المهم الذي يجب أن يكون في هذا المجال الذي يشهد اهتماماً عالمياً مستحقاً، والذي يؤمن مستقبلاً أفضل للأجيال القادمة في السعودية والعالم.
نحن أمام سعوديةٍ جديدةٍ تشق طريقها نحو مستقبلٍ أجمل وأبهى، وهي تعيش عملية انتقالٍ كبرى على كل المستويات، يشهدها القاصي والداني، وهي في مخاض بناء تجربةٍ تنمويةٍ ضخمةٍ، وتشكيل نموذجٍ جديدٍ يضاهي التجارب الكبرى حول العالم سواء التجربة اليابانية أو الكورية الجنوبية أو السنغافورية أو مثيلاتها، وبناء النماذج المميزة والناجحة هو من أصعب الانتقالات الكبرى التي تنقل الدول والمجتمعات إلى آفاقٍ جديدةٍ لم تكن معروفةً من قبل.
باتت السعودية الجديدة خبراً عالمياً في كل وسائل الإعلام الشرقية والغربية، يرقبون تطوراتها وقراراتها وتوجهاتها السياسية والاقتصادية، وباتت محط أنظار المستثمرين بمشاريعها الضخمة ورؤاها الحالمة في الحاضر والمتنوعة في الواقع والممتدة في المستقبل، والكل يسعى للشراكة معها ويتسابق بالظفر برضاها والعمل معها، وهكذا تبنى الدول بالحزم والعزم والتطوير المستمر والمرونة الفاعلة.
هذا سياق عرضٍ مختصرٍ للتطورات التي تجري في السعودية، وليس من غرضه المديح أو الثناء بل الوصف والتحليل، وتقديم خلاصات قصيرةٍ لتحول بلدٍ بحجم السعودية إلى ورشة عملٍ لا تهدأ ولا تكلّ لتحقيق أحلامٍ وطموحاتٍ عريضة بانتقالٍ حضاري واسعٍ يهدف لوضع البلاد على خريطة العالم بشكلٍ جديدٍ كلياً ويمنحها دورها المكين ومكانتها المستحقة بأضعاف أضعاف ما كان في السابق.


ما عاد المواطن السعودي يؤمن بالمستحيل، بل يرى الفرص والمشاريع والتخطيط الواعي والعمل المستمر طريقاً رحبة للانتقال الحضاري الكبير الذي يبنى يوماً بعد يومٍ بفكرٍ نيرٍ وإرادة صلبةٍ، ومن له اهتمام فيمكنه رصد هذا التحول في شوارع السعودية وفي شبابها الطموح وفي مشاريعها الرائدة.


كم كان عدد المنتقدين لقرار عاصفة الحزم والتحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن؟ وكم كان عدد المنتقدين لدفاع السعودية عن مصالحها ومصالح الدول العربية في العراق وسوريا ولبنان وغيرها؟ وكم كان عدد المنتقدين لقرار التخلي عن الاعتماد على النفط كمصدرٍ شبه وحيدٍ للدخل؟ الآن بدأت تنجلي الحقائق وتظهر الوقائع من سجف الغيب وتعرض نفسها للجميع.
حرب اليمن تشهد انحساراً واضحاً لميليشيا الحوثي الإيرانية وقد بات اليمن قاب قوسين أو أدنى من الخروج من الفك الفارسي الخميني الإيراني، وميناء الحديدة يتمّ تحريره بالقوة الخشنة للجيش اليمني والمقاومة وقوات التحالف، وشراذم الحوثي تفرّ من الجبهات لا تلوي على شيء وتستمع لزعيم الحوثيين يأمر فترفض التنفيذ ويطالب بالثبات فتلجأ للفرار، والمشروع الإيراني يواجه تحالفاً دولياً تقوده الولايات المتحدة، وتنويع الاقتصاد السعودي أصبح حديثاً على كل لسان ومطمحاً لكل مستثمرٍ وغايةً لكل حالمٍ.
أخيراً، فإن ما يجري في السعودية هو نموذجٌ برسم البناء، وتجربةٌ برسم التشييد، وقدوةٌ برسم الاقتداء، وعلى كل طامحٍ أن ينظر ويتأمل كيف يمكن الاستفادة منها.