عبدالله بشارة

قال الشيخ ناصر صباح الأحمد، وفق ما جاء في صحيفة الجريدة يوم 26 مايو الماضي، في كلمته بمناسبة الذكرى السنوية لجريمة مسجد الإمام الصادق: «ان شهداء الجامع كرسوا اللحمة الوطنية، وذكراهم تزيد لحمتنا قوة لكل من يضمر الشر للكويت وأهلها»، مؤكداً أيضا: «لن نسمح للانقلابيين بالتخفي بيننا، وإن كان مع الأسف عدد منهم ما زال بيننا، ولكن مجتمعنا لن يسمح لهم ببث الفتنة».
هكذا يقول النائب الأول وزير الدفاع بوضوح معبر عن إدراك القيادة للمخاطر المهددة للوضع الداخلي، وتخوفها من استمرار نهج المفاخرة القبلية والحدة الطائفية، واتساع التباعد، وبما يزيد القلق من تلك الاستعراضات البرلمانية القبلية، التي شاهدناها خلال استجواب الوزراء مؤخراً، لا سيما طغيانها على المداولات الخاصة بمساءلة الوزير المؤدب بخيت الرشيدي.
هذه اللوحات المستنجدة بالغطاء القبلي تصيب، مهما حاولنا التخفيف منها، مرتكزات المجتمع وقواعد صلابته، وتهز النهج التوافقي المجتمعي، وتحطم خطوط الأولويات في كيان المواطنة، فبدلاً من الاحتماء بسلامة التصرف ونظافة التعامل ودستورية الخطوات، يتحمس بعض النواب لتوفير الحصانة من أكتاف القبيلة، فيأتي التحصين من الاستنفار القبلي، ومثلها تأتي المؤازرة من التآخي الطائفي، في الفزعة الطائفية حول الجمعية، التي ألغت ترتيبها وزيرة الشؤون بسبب تجاوزها القانون وتخطيها قواعد الانضباط.
ومن المهم أن تستخلص السلطة الدروس من تلك المداولات الفجة، ومن تلك المواقف التي تضرب بعنف جوهر الدستور، وتتطاول على أبرز مكانة في الحس الوطني، وهي الهوية الوطنية منبع الشرعية لكيان الدولة والمحرك التلقائي للتعبئة الشعبية عند الاستنفار للذود عن الوطن والوفاء بالتضحيات التي يتطلبها هذا الوطن.
وقد سجل التاريخ، كما نقرأ من صفحات مسيرة الكويت، بتفاعل مثير، حيوية التعبئة الجماهيرية عند الاحساس بالخطر المهدد للوطن، كما نقرأ في سجل الكويت عن أحداث استهدفت الكويت من مواقع الجوار البحري والأرضي، وكانت المنابع لتلك التعبئة هي الحس الوطني في وقاية الأرض وحمايتها في تعبير شعبي جماعي للتأكيد على أن الكويت وطن جميع المواطنين وفق أحكام القانون وسيادته، ومع حق الكفاءة في القيادة، في مناخ للتعايش بسلام وانسجام وفي تبادلية الاحترام للخصوصيات، وكان المعيار حجم العطاء فقط، لكن الجميع يمتثل لمسطرة واحدة هي القانون.
ونجاح الكويت في الحفاظ على هويتها رغم قسوة الظروف وندرة الموجود يعود إلى صلابة أهلها وتصميمهم على سلامة ترابها والحفاظ على هويتها المستقلة، من دون تقاعس من أحد، ورغم ذلك لم تسلم الكويت من التهديدات، فدفعت أميرها الشيخ مبارك الصباح إلى توقيع اتفاقية حماية في يناير 1899 تؤمن السياج الرادع ضد قوى أكبر من حجمها.
ومن ذلك الواقع المتعب والمقلق، ترسخت القناعة الجماعية بأولوية الوحدة الوطنية، وتعميق المساواة وتعظيم حكم القانون والايمان بحق القادرين على التصدي من أجل تأمين مناخ التآلف والتكاتف على المجتمع الكويتي، تعزز هذا النهج، بحكم التطور، مع إعلان الدستور الراقي في روحه والموثق لحكم القانون.

كنت أتوقع سخطاً جماعياً من منظمات المجتمع المدني في شجب المبارزة القبلية والمعاضدة الطائفية، التي سجلتها مداولات الاستجواب منذ أسبوعين، كانت تلك الوقائع تحدياً للدستور، وتجاهلاً لمسار تاريخي تميز بالوحدة والتكاتف، وكان الواجب إدانة ما ظهر من محتويات قبلية وطائفية وعنصرية هزت اللوحة الوطنية الزاهية التي نتغزّ بها.
لا زال هناك بعض الوقت للعلاج قبل استفحال الشر وامتداد الأذى، ربما يستطيع وزير الداخلية حصر المنتديات القبلية والطائفية وغيرها من نشاطات سياسية في الدواوين، من دون السماح بمخيمات تضم أعداداً ضخمة مع تواجد إعلامي، وإعلام وبيارق يلتف حولها المتحمسون بقصائد تفاخر بمفردات النخوة والاثارة، وبنفس المقياس يمكن تطويق الاضرار الفئوية والطائفية، بلا تبجيل لألقاب لا شرعية لها.

الكويت لن ترقى بالقبليات ولن تسعد بالطائفيات ولن ترتفع بالمحسوبيات والفئويات ولا تزدهر بالانفعالات العنصرية، وإنما تزهو بالنظام المدني في إطار دولة القانون والمساواة، ومن دون الدولة الدستورية رغم متاعبها، تتمزق عروق القوة التي ميزت الكويت عبر وحدتها الوطنية، ومن حق صحيفة القبس أن تتحدث عن هذا الوضع البليد كقضية وطنية ملحة.
في عنوانها حاملاً قلق الجميع من التآكل والتلاشي بتأكيد ضرورة التصدي لهذا المنحى الانحداري الذي يعيد مفهوم الدولة إلى الوراء بدلاً أن ترسمه الممارسة السليمة في خدمة وحدة الشعب وتقدمه وانخراطه في العالم الحديث مخففاً من أثقال التعصب والتخلف.
نقرأ من التاريخ عن خطورة إثارة غرائز الجماهير التي لا تتوقف عندما يطغى الحماس عليها، وتنفلت العواطف نحو تدمير المعالم التي ترمز للدولة، فتاريخ العراق مملوء بالعبر عن الهيجان الشعبي، كما تسجل ثورة 1958، مع تواصل لا زال مستمرا، وتاريخ أوروبا مملوء بوقائع سجلتها سطوة الهيجان الجماهيري، فلا ضمان سوى سلطة دستورية في دولة برلمانية مدنية، ولعلنا نتحرك قبل أن تصرخ أجراس الإنذار نحو درب التلاشي.