نوال السعداوي

تعودت فى كل زيارة لمدينة لندن أن أشترى مجلة تايم أوت لأبحث عن الأفلام السينمائية الجيدة، وأقرأ ما يكتب عنها من مقالات نقدية. وأحرص على رؤيتها جميعا، لكن فى زيارتى الأخيرة التى امتدت من 18 الى 26 مايو 2018، لم أعثر على فيلم واحد يستحق الرؤية، وسألت الصديقات والأصدقاء فى لندن العاشقين للسينما من الإنجليز وغير الإنجليز، فقالوا إن السينما فى العالم كله تعانى هبوطا شديدا ومن النادر أن يظهر فيلم له قيمة فنية عالية، كل شيء تحول الى سلعة فى السوق الرأسمالية الشرسة، وطغت الإعلانات التجارية القائمة على إثارة الغرائز والعنف والجريمة والتجمل السطحى الساذج، وأصبح الفنانون فى مجال السينما أو الأدب أو المسرح أو الموسيقى أو الغناء أو غيرها ينتجون أعمالا تتماشى مع التفاهة ، وتربح الأموال بأسرع ما يمكن، وإلا تعرضوا للإفلاس والخروج من السوق.

تجدد الحزن الذى أشعر به فى مصر، كلما تمر السنون دون أن أشهد فيلما مصريا جيدا، وأرى المبدعين المخرجين من الشباب وغير الشباب يهاجرون الى الخارج أو الى الداخل، ثم تلقيت دعوة من صديق إنجليزي، فنان مناضل، يتحدى القدر ويتابع السينما والمسرح، قال لى بحماس, قرأت عن فيلم رائع اسمه زاما من إخراج لوكريشيا مارتيل، مخرجة مهمة من الأرجنتين، سيعرض الفيلم غدا الأربعاء 23 مايو فى لندن لأول مرة فى العالم، بحضور المخرجة، فى سينما ساوث بانك، ثلاث دقائق فقط بالتاكسى من فندقك يا نوال، فهل أمر عليك ونذهب معا؟ ولم أتردد فى إلغاء مواعيدي، بما فيها عشاء فاخر على شاطئ التايمز الحنوبي، من أجل أن أشاهد الفيلم . كانت قاعة السينما الضخمة قد امتلأت بالآلاف، وظهرت المخرحة الأرجنتينية على المسرح وتكلمت بضع دقائق عن موضوع الفيلم، الذى يبدأ من عام 1790 ميلادية، تحت وطأة الاحتلال الإسبانى لأمريكا اللاتينية، وأنهت كلمتها قائلة «هذه تجربة سينمائية جديدة أخوضها بجرأة، قد تعجبكم، أو ربما تكون منفرة مثل شربة زيت الخروع»، وبدأ الفيلم ببعض الإيحاءات الغامضة لأضواء وأصوات وتحركات لأجزاء من خيول وبشر وجنود بالخوذيات والأسلحة، منهم زاما ( قام بدوره الممثل جيمينيز كاشو) بطل الفيلم المأخوذ عن رواية أنتونيو دى بينديتو كتبها عام 1956، يظهر الجندى زاما فى أول مشهد واقفا يتأمل مياه البحر كأنما يحلم بالعودة الى وطنه إسبانيا ويترك أرض أمريكا الجنوبية الغارقة فى الألم والدم التى شارك فى غزوها وتعذيب سكانها، رغم أنه فى الأصل من سكانها، أمريكى جنوبى وليس إسبانيا، لكنه يتنكر لأصله وأهله ويتقمص شخصية سيده الأجنبى المستعمر الأوروبي, نراه يتلصص على فتيات من الشعب المقهور، يغتسلن فى الحمام ، يقتحم المكان ويصفع فتاة تتجرأ وتبعده عنها. يغوص الفيلم فى مشاهد الفساد الأخلاقى والسياسى والقهر الاستعمارى والجرائم الغامضة الكفكاوية، ( نسبة الى الكاتب فرانز كافكا)، لا نفهم شيئا مما يدور ، إلا أن زاما يجسد العقلية الاستعمارية الطبقية الذكورية الفظة، وأسلوبها الديكتاتورى العسكرى البوليسي، تتكرر المشاهد والأصوات والحركات على مدى الساعتين، شعرت بالملل والألم فى عظام عمودى الفقري، وكنت، بطرف عيني، أرمق صديقي، لعله كان مثلى يشعر بالملل، وربما يقترح أن نغادر القاعة، لكنى رأيته يتابع الفيلم باستغراق شديد، تشككت فى ثقافتى السينمائية، وابتلعت المشاهد المملة فى صبر كظيم، حتى رأيت بعض الناس تغادر مقاعدها متسللة الى الخارج، فاستعدت الثقة فى ذوقى الفنى وصبرت حتى انتهى الفيلم، وما إن خرجت الى الهواء الطلق حتى سألت صديقى «ما رأيك يا جيمس؟» قال بحزن وأسي: «آسف يا نوال على اختيارى غير الموفق، إنه فيلم دون المستوي، ما رأيك؟» قلت، أنا أوافقك، إنه فيلم مرهق وإن كان الموضوع جيدا، وكانت هناك لقطات جميلة متفرقة رغم القبح الكلي، قال لا تخلو اللوحة القبيحة من أجزاء جميلة، ولا تخلو اللوحة الجميلة من أجزاء قبيحة، المهم هو التناسق النهائى بين القبح والجمال، قلت والمهم أيضا شعورنا تجاه العمل الفني، أنا مثلا أشعر بالإرهاق الشديد بعد مشاهدة هذا الزاما، أما الفيلم الجيد فيبدد التعب ويمنحنى نشاطا غريبا من حيث لا أدرى.