صالحة غابش

بعد أيام سيختم رمضان أيامه المباركة بصيامه وقيامه وعباداته الاستثنائية المختلفة عن باقي أيام السنة، وسيأتي معه نهاية حلقات المسلسلات التي حوصر بها متابعوها، ويتنفس الجميع الصعداء للنهايات السعيدة أو المفتوحة أو غيرها من النهايات، فيقولون إلى اللقاء يا «مسلسلات» رمضان.. وفيها تبدأ عجلة الاستعداد ل«دراما» لرمضان القادم بالدوران.

قبل رمضان بأسابيع، تبشرنا الفضائيات العربية بقيم جميلة للشهر المبارك عبر شعارات تبعث في نفوسنا الشوق لقدومه سريعاً مثل: رمضان يجمعنا - لمة رمضان - رمضان جمعنا - رمضان أحلى، لتلهمنا ببعض المفاهيم التي يغرسها رمضان الكريم في حياتنا، وهو التواصل العائلي واللقاء على مائدة واحدة، ولتكن مائدة طعام تندس في أطباقها نكهات المحبة والرحمة والاحترام وتوقير الكبير والعطف على الصغير، فضلاً عن الإيمان وطاعة الرحمن في اتباع هذه القيم الجميلة في حياتنا، وفي عبادته وحده.

هذا الشعارات نراها تأتي بعد دعايات وإعلانات لواحد من أهم ملامح رمضان الحديثة، وهو الإنتاج الدرامي المكثف الذي تمتلئ به ساعات الليل والنهار في الشهر الكريم، حتى إذا فاضت عن الساعات الرمضانية انزلقت خارج ما يسمونه «السباق الرمضاني»، ليعيش المشاهد الصائم في حالة انهيار وتوهان ودهشة حتى وهو يتناول المسليات لاندماجه في الأحداث المتتابعة. والملاحظ أن اختيار توقيت البث يضع في اعتباره قوة المشاهدة من حيث عدد المشاهدين المتابعين لأحداث المسلسل، لا وقت العبادات كالصلاة والقيام، أو حتى وقت الصيام حيث تمتلئ ساعات البث بمسلسل تلو الآخر لا فاصل بينهما إلا الدعايات المملّة، ففي الجعبة الكثير منها، وتصريفه أولاً بأول لا بد منه، وإلا لا وقاية من غضب المعلنين، وشكوى الممثلين، ونقمة جهات الإنتاج التي تريد أن تدفع بإنتاجها وسط هذه الجموع وتعلن أنها موجودة.

ما زلت أتذكر قولاً يكرره الممثلون قديماً في لقاءاتهم هو:«إن جهاز التلفاز يدخل كل بيت، ونحن ضيوف على الأسر نطل عبر شاشته، لذلك نحترم القيم الأسرية والعادات والتقاليد التي نؤمن بها».

هذا معنى ما قالوا، وهو معنى يرى القائمون على الإنتاج الدرامي التلفزيوني حالياً ومن يساندهم من النقاد أنه لا علاقة له بالفن والتطور والإنسان الحديث وقيم الحياة والعلاقات الإنسانية، لذلك على الجميع أن يتقبل كل ما يعرض بنفس راضية وإلا «فأنت متخلّف» لا تفقه شيئاً عن دور الدراما، فيأتي «المنطق الدرامي» ليحاول إقناعك أن مشاهد بعينها لا بد منها لأنها «منطق».
في التلفزيون رأينا خيانات وعلاقات غير شرعية، علاقات مرضية تأخذ المشاهد إلى دنياها المشوهة عبر حلقات طويلة. ولذر الرماد في عيون النقد المجتمعي لمثل هذه الآفات الدرامية، خرج القائمون عليها بفكرة تحديد المرحلة العمرية لمشاهدي هذه الأعمال، ليخرج التلفزيون من ثوب جهاز العائلة الذي «يجمع» و«يلم»، ففرّق شملها. في التلفزيون اليوم، أعمال تبرر للخيانة، وأبطال مدعمون بالسلاح، هناك عنف وصراع ودم، وكأن الدراما تستغل زمننا العربي، ولكن في إطار قضايا شخصية ومعالجات مدمرة أكثر من القضية نفسها، وتسابق الإنتاج في إظهار أبشع ما في الإنسان وراء أحداثٍ تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل لسلام الإنسان مع نفسه.. أفراد أسرة ضد بعضهم بعضاً، وخيانات بين الأصدقاء، وبين الأزواج، وحكايات تبدأ بالمؤامرة على قتل الأم والأب ولا تنتهي بالسحر والشعوذة والرعب.

ترى أشخاصاً لا يمثلونك بل يمثلون أنفسهم وجهة إنتاجهم، فهم موسومون بالقلق والتوتر والرغبة في الانتقام، وللبحث عن دروب أخرى لإرباك الشخصية، دخلت على الخط وبكل قوة دراما السحر والشعوذة.

وحين توجّه إليهم رسائل النقد من المجتمع أو من المختصين، يردّون بسؤالهم الذي لا يزالون يستندون إليه لتبرير إنتاجهم: 
لماذا نهرب من الواقع؟
إن المسلسلات تشعرني أنها كائنات لا تعيش إلا على الواقع الموحل، ولا «تعبئ رأسها» إيجابيات الحياة.

لا بد من وجود موهوبين في الكتابة يستطيعون أن يحوّلوا بعض إيجابيات الحياة إلى عمل درامي لا ينقصه التشويق، ولا الإبهار بعيداً عن المشاهد غير اللائقة والألفاظ التي لم نسمعها من قبل، وحين نسأل عن معناها نود لو لم نسأل.

إن بعض المصطلحات النقدية مثل قولهم عن «منطقية الأحداث»، أعطى بعض النقاد مبرراً لأن يمرروا هذه الأعمال، وهي مصطلحات لم تعد مقنعة لا لمشاهد واعٍ، ولا حتى لمشاهدٍ فنانٍ لم يشارك أو يرفض المشاركة في تدمير الأخلاق والقيم والفضيلة.

إن للفن والفنانين دوراً كبيراً في التأثير في وعي المجتمعات لا خلاف في ذلك، ولو لم يكن الفن الدرامي مهماً لما امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بتجارب أناسٍ عاديين وهم يمثلون اللقطات القصيرة، أو يصورونها ويخرجونها،لأنه فن ممتع، ومسلٍّ، وفي الوقت نفسه يتيح لمكامن الإبداع فيه أن تظهر، كما أن تغييرات مهمة حدثت وجعلت الواقع أفضل بسبب فيلم أو تمثيلية طرحت القضية بجدية وفكر، ومنطق درامي غير مقتصر على مشاهد الغواية وما إلى ذلك، لهذا هي مسؤولية كبيرة جداً تقع أولاً في رأيي، على الممثل، لأنه هو من يختار وهو من يستسلم لمطالب المخرج باعتبار هذا الأخير قائد الفريق ومهندس الأحداث واللقطات، ثم المخرج المسؤول الثاني لأنه القائد كما المنتجين الذين يريد أكثرهم القيمة المادية المدفوعة في العمل ترجع إليهم مضاعفة، أما القيمة «الأخرى» فقد تكون مهمة ولكن!

أعتقد أن كل من له علاقة، يفكر الآن بماذا سيأتي لرمضان القادم؟ كم قيمة سيدمر، لكن بمنطق درامي.

هذا الشهر الكريم لا يستحق منا، أيها الدراميون، أن نزاحم ساعاته بحكاياتنا التي يمكن أن تزاحموا بالجيد منها في ساعاتٍ أخرى طويلة متاحة لكم طوال أحد عشر شهراً في السنة.