حسن المصطفى

ربما كنت محظوظاً، فمنزل العائلة يقع على مسافة خطوات من مقر «لجنة التنمية الاجتماعية بالقطيف»، حيث يعرض الفنانون التشكيليون والفوتوغرافيون، وأيضاً المسرحيون، أعمالهم الفنية، بشكل متواصل طوال العام، وسط نقاشات دائمة بين الحضور، نساء ورجالاً، ما منحني فرصة للتعرف على أهم فناني المنطقة الشرقية في وقت باكر، وأن ألحظ الفروقات الثقافية بين التجارب المختلفة، سواء على مستوى تعبيرها عن الفن وتصورها له، أو ارتباطها بالذات والوجود من حولهما. والأكثر إثارة هو مدى قدرة الفنانين على تحويل تلك الأفكار الشخصية لأعمال إبداعية، وهي الخطوة الأكثر إدهاشاً، ربما.

كان المكان أشبه بخلية نحل، والحماسة تأخذ رواد المكان، رغم قلة الإمكانات المادية، والصعوبات التي تواجههم. إلا أنهم رغم ذلك، كانت لديهم العزيمة على المواصلة، وتطوير الذات. لأنه وببساطة، كان الفن حلماً لا يفارق الخيال، وطريقة تعبير خاصة عن علاقة الفنان بمجتمعه، وأيضاً جزءاً من ممارسته لحريته بالشكل الذي يراه مناسباً، أو ممكناً!

هذا السياق الثقافي الذي كان يعيشه الفنانون في المنطقة الشرقية، هو جزء من مشهد فني أكبر غير مرئي لدى كثيرين، ممتد من البحر إلى البحر، ومن شمال الجزيرة حتى تخوم جبالها الشاهقة في الجنوب. هو حبل سري من الفن، الثقافة، والتجريب، وربما العبث أيضاً، والبوهيمية أحياناً.. تلك هي طبيعة الفنان، وطريقته في التعبير عن ذاته بشكل غير مألوف، خارج السياق المعتاد عليه لدى الناس، وإلا لكان نسخة مكررة عن اليومي، الروتيني، البارد من الحيوات!

أتذكر تلك السنوات الخالية، كونها شهدت إهمالاً اجتماعياً لهذا النوع من الفنون، حتى على مستوى التعليم الرسمي. فالطلاب في المدارس يحضرون حصص «التربية الفنية» لتمضية الوقت، لا أكثر. بوصفها نوعاً من التسلية، لا علم له قواعده، أو ذائقة جمالية عليهم تربيتها ورعايتها وتنميتها لديهم.

حتى المعاهد الفنية، وكليات الفنون الجميلة غائبة لدينا. وخريجو «التربية الفنية» من الكليات، أبعد ما يكونون في دراستهم عن روح الفن ومعانيه الفلسفية والتجريدية!

التجريب الذي مارسه الفنانون المشاركون ضمن فريق «معهد مسك للفنون»، في «بينالي البندقية للعمارة 2018»، يشي بأن ثمة تغيراً في النظرة نحو الفن، وبأن هنالك مساعي لإعادة الاعتبار له. خصوصاً أن الأعمال المقدمة لم تكن من نوع الفن الكلاسيكي التقليدي، بل كانت مشغولات لها بعد فلسفي، وجودي، يتعلق بالمكان وعلاقته بالذات، وكيفية تشكله، وتأثير ذلك كله على المعمار وجماله، وأيضا على شبكة علاقات الناس ببعضهم البعض.

الاهتمام بهذا النوع من المبادرات من شأنه أن يقود تدريجياً لخلق ذائقة عامة، تهتم بالجماليات كجزء من الحياة، وليست مجرد أعمال تثير الإعجاب والتصفيق، وهي مسؤولية سيكون أمام فريق «معهد مسك للفنون» طريق طويلة لتحقيقها. مهمة قد تكون صعبة، لكنها ضرورية، وفنانو المملكة قادرون على النهوض بها.