سالم حميد 

أصبحت الحاجة إلى تجديد الخطاب الديني وتنقية كتب التراث من التأويلات المتطرفة للنصوص، مسألة حتمية ومطلوبة بشدة، ضمن سلسلة خطوات متنوعة لا بد من القيام بها لمواصلة تجفيف منابع الإرهاب، وضمان نشر ثقافة التسامح والتعايش، والوجود مع الآخرين في المستقبل بشكل حضاري، عبر التركيز على الإسهام في النهضة الإنسانية المعاصرة، وانتشال الواقع العربي والإسلامي من مرحلة الاستهلاك السلبي للأفكار، لكي يتم الانتقال من مربع العجز والتقوقع والارتهان للماضي، إلى خانة الفعل الإيجابي والشراكة المثمرة مع العالم في التنمية، والعمل على إزالة أسباب الفقر والتخلف والمعاناة التي لا يزال يعيشها البشر في بعض الدول.

لكن تجديد الخطاب الديني في منطقتنا ما أن تظهر علامات انطلاقه حتى يواجه عقبات وتحديات، لأن التجديد نقيض للتخلف بكل ألوانه وجذوره. ويمكن تفهم هذه المعضلة، لأن الخطوات العملاقة التي أنجزتها البشرية في مسيرتها كانت دائماً تتطلب مواجهة الركود العقلي والخرافات، وكشف من يتاجرون بها. ولولا الإعلاء من قيمة العقل والحكمة وتشجيع الاجتهاد العلمي والفكري، لما تقدمت الحضارة إلى ما أصبحت عليه حالياً.

وبالنسبة لنا في العالم العربي والإسلامي، لا تزال إشكالية تقديس كتب التراث تمثل عائقاً أمام فتح باب الاجتهاد والتنوير وتأسيس وعي منفتح، بحيث يمكن إعادة قراءة التراث بعيداً عن الجمود الفكري، وبناءً على حاجات العصر ومتطلباته.

لذلك فإن الإشكالية التي تحد من انتشار خطاب التنوير والاجتهاد، تبدأ بظاهرة استبداد المتطرفين والظلاميين بالرأي. وعندما نتساءل: لماذا يستبد التيار السلفي التقليدي بالرأي ويرفض أتباعه الخضوع للنقاش؟ نجد أن هذا الأسلوب يمثل دليلاً على ضعف منطقهم وغياب حجتهم. وعلى سبيل المثال، لا تزال ملابسات واقعة محاولة قتل الروائي المصري الشهير نجيب محفوظ، تمثل مقياساً للاستدلال على ركاكة وفساد خطاب التطرف، وتقدم لنا شواهد على أن المتطرفين يعتمدون اجترار التوصيفات والفتاوى دون أي تدبر عقلي أو مراجعات منطقية. فعندما تم التحقيق مع المتهم بمحاولة قتل نجيب محفوظ عن سبب إقدامه على الشروع في جريمته، اعترف بأنه لم يقرأ أي كتاب لمحفوظ، لكنه قرأ فتوى بتكفيره!

هكذا تحول التكفير إلى سلاح في أيدي الجهلة، وظن المتطرفون أن لديهم كل الحق في تكفير ورفض من يختلف معهم. وعندما تم تجاهل مقدمات التطرف والبيئة الحاضنة التي نشرت خطاب الغلو، ظهرت جماعات إرهابية، وكلها نشرت سموم أفكارها في أوساط الشباب، وعملت على تجميل الانتحار باسم الجهاد. وواصل المتطرفون استخدام سلاح الاستبداد بالرأي واستغلال التسامح. كما ساهمت قطاعات مجتمعية في منح قداسة غير مبررة ودون أي وجه حق لدعاة التطرف الذين استغلوا منابر المساجد لنشر الغلو والتشدد ولاختطاف عقول الشباب عبر خطاب ديني عاطفي لا يقبل النقاش.

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح، خاصة بعد أن تكرر رفض المتطرفين لأي أنشطة تهدف إلى نشر خطاب التنوير، هو: من أعطى ذلك الفريق المتطرف كل هذه القداسة والحصانة؟ لذلك نرى كيف تتحالف أطياف الإرهاب المختلفة فيما بينها عندما يتعلق الأمر بمواجهة أي مشروع فكري حديث، حيث يتساوى "الإخواني" مع السلفي مع الداعشي، وسلاحهم الوحيد هو استعطاف المجتمع وتأليب الرأي العام باستخدام العاطفة الدينية، وبذلك يقدمون دليلاً على ضعفهم ويؤكدون عجزهم عن إقامة حوار جاد مع من يختلفون معه فكرياً، بينما يفترض أن يتم الجدال والرد على الفكر عبر الكتابة والنقد الموازي، وليس عبر الصراخ والاستنجاد بعامة الناس الذين لا يعرفون حقيقة المتطرفين ومدى جشعهم في المتاجرة بالدين.

إن الطريق الوحيد لمواجهة الفكر يكون بفكر مقابل له وليس بتجييش عواطف المجتمع واستخدامها كسلاح كما يفعل المتطرفون عندما يفشلون في مناقشة من يخالفهم. ويجب أن يعرفوا أن تقدم المجتمعات يتحقق أساساً عبر الأفكار التجديدية قبل كل شيء، وأن ما يقومون به هو الوقوف ضد التطور الطبيعي للفكر من خلال تكبيل العقول. بينما يشير واقع الأمة العربية إلى أننا أحوج ما نكون إلى العقلانية وإلى التفريق بين الخرافة والحقيقة.