عمر البيطار 

منذ بدايتها، وعلى مدى أعوام طويلة، واجهت مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني بين الدول الست (5+1) وإيران صعوبة كبيرة في التوصل إلى تفاهمات مرضية لجميع الأطراف، ومع استمرارها أصبح من الواضح أن مصيرها يتجه نحو الفشل، وذلك حتى وقت قريب من انقضاء مهلة المفاوضات بتاريخ 24/11/2014، ولكن بتاريخ 9/11/2014 وبشكل مفاجئ وافقت الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما على التفاهم مع إيران بشكل منفرد، من خلال مفاوضات سرية عقدت بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير خارجية إيران محمد جواد ظريف في اجتماع سري عقد في مسقط على مدى يومين وبرعاية وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي، وحضور ممثلة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي حينها أشتون.

وبعد هذا الاجتماع السري تم إطلاع الدول الغربية الأخرى المشاركة في المفاوضات على نتائجه، وهي بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ليتم إقرارها من قبلهم سعياً لاستمرار المفاوضات الرسمية والتوصل إلى اتفاق حول فرض القيود على البرنامج النووي الإيراني خلال عام، علماً بأن الصين وروسيا كانتا - على الأغلب - تعلمان بمضمون الاجتماعات السرية من خلال إيران. لقد سعت إيران منذ البداية إلى إدراج قضايا المنطقة وتضمينها في المفاوضات لتحقيق بعض من طموحاتها الإقليمية في الهيمنة والتدخل بطريقة تكون مقبولة لدى الدول الكبرى تحت شعار محاربة الإرهاب، الأمر الذي لم يكن وارداً أو مقبولاً من قبل المجموعة الغربية طوال فترة المفاوضات، ولكن يبدو لاحقاً أن هذا ما حصل فعلاً خلال ذلك الاجتماع السري بين أميركا وإيران، علماً بأن مثل هذا الاجتماع لم يكن لينعقد دون أن تكون الولايات المتحدة متأكدة بأنه سيحقق النتائج المرجوة. حتماً لقد رأت الإدارة الأميركية بأن هناك فرصة للتفاهم مع إيران حول قضايا المنطقة بغرض فرض شروطها وتحقيق مكاسب إقليمية ودولية للمرحلة المقبلة، وذلك قبل السماح باستمرار المفاوضات الرسمية في إطار (5+1).

إلى هذا اليوم لم يعلن عن مضمون الاتفاق السري وقد بقي طي الكتمان، ولكن من الواضح أن تدخل إيران في دول منطقة الشرق الأوسط وتمددها في كل من: العراق – سوريا – لبنان – اليمن، ومناطق أخرى أصبح بعد الاتفاق معلناً وسافراً بل تباهت به القيادة الإيرانية، دون أن يلقى ذلك اعتراض يذكر من قبل المجموعة الغربية. إذا فما هو الثمن الذي دفعته إيران في سبيل إطلاق يدها في المنطقة؟ وما هي المكاسب التي حققتها الولايات المتحدة من هذه الصفقة. إن دلالات اجتماع كيري - ظريف تشير بأن مضمون الاتفاق السري كان يدور في فلك المقايضة على قضايا المنطقة مقابل الموافقة على مواصلة المفاوضات (5+1) وتوصلها إلى نتائج مرضية في أقرب وقت ممكن، علماً بأن الاتفاق حول الأمور الفنية للحد من نشاط إيران النووي لم يكن مستعصياً لو كانت إيران صادقة في ادعائها بأن برنامجها النووي سلمي، خاصة وأنها من الموقعين على معاهدة منع انتشار السلاح النووي (NPT)، دون أن يمنعها ذلك من مواصلة برنامجها النووي السلمي كما تدعي.

من المعروف أن من أولويات واشنطن في منطقة الشرق الأوسط هي؛ ضمان أمن إسرائيل ولذلك فإنه في الوقت الذي كان أوباما يرغب بسحب جزء كبير من قوات المنطقة المركزية في الشرق الأوسط ونقلها إلى منطقة المحيط الهادئ، تزامناً مع انتقال أولويات الاستراتيجية الأميركية من المنطقة المركزية إلى منطقة المحيط الهادئ وشرق آسيا، وفقاً لما عرف حينها «بعقيدة أوباما»، والتي كانت من ضمن أهدافها احتواء تمدد النفوذ الصيني في شرق آسيا والمحيط الهادئ والاستعداد للتعامل مع ملفات منطقة المحيط وشرق آسيا بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر، بالتالي كان لا بد للولايات المتحدة من التعامل مع مصالحها في الشرق الأوسط بالوسائل الأخرى السياسية والاستخباراتية وعن طرق توظيف لاعبين آخرين للقيام عنها بدورها لملء الفراغ، وهذا ما اتضح لاحقاً في كل من سوريا والعراق عندما تركت واشنطن الساحة لروسيا وإيران وتركيا وفق تفاهمات تمت بينهم لمعالجة ملفات الإرهاب وتقاسم النفوذ في المنطقة دون أن يؤثر ذلك على أمن إسرائيل.

ومن جهة أخرى سعت الإدارة الأميركية وقتها إلى ضمان تدفق النفط من المنطقة والعمل على تخفيض سعره بإغراق السوق بفائض نفطي هائل، تزامناً مع رفع الحظر الاقتصادي عن إيران وهذا ما حصل فعلا عندما تهاوى سعر برميل النفط من حوالي 100 دولار إلى 30 دولاراً. ومن جهة أخرى، يبدو أن الإدارة الأميركية أخذت التعهدات والضمانات من إيران وأتباعها في المنطقة بعدم المس بأمن إسرائيل بأي وجه من الوجوه أثناء فترة الاتفاق، علماً بأن كلاً من روسيا والصين إلى جانب بريطانيا وفرنسا ليس من مصلحتها السماح لإيران أو لعملائها في المنطقة بالعبث بأمن إسرائيل حتى لو اقتضى ذلك استخدام القوة ضدهم، وفي المقابل طالبت إيران بعدم اعتراض المجموعة الغربية على تحركاتها وتدخلاتها وتمددها في المنطقة بحرية تامة تحت شعار محاربة الإرهاب، علماً بأن هناك دلائل دامغة على أن إيران راعية للإرهاب وتستخدمه كذريعة لتدخلاتها في المنطقة.

من المؤكد أن مفتاح الاتفاق النووي مع إيران كانت تقوده واشنطن، وخروجها منه اليوم بقرار من الرئيس ترامب يفقده أهميته بغض النظر عن قرار بقاء مجموعة الدول الغربية الأخرى فيه، إلى جانب الصين وروسيا إيماناً من هذه الدول بأنه يحقق الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي، ولكن بخروج الولايات المتحدة من الاتفاق فقد سحب الغطاء عن إيران في المنطقة بعد أن تبين للإدارة الأميركية الحالية سوء تقدير إدارة أوباما، بل ومغامرتها بمستقبل المنطقة على المدى البعيد من أجل مكاسب قريبة، علماً بأنه قد وضع المنطقة رهينة لمطامع إيران ورغبتها في الهيمنة وهو الأمر الذي يهدد الأمن القومي الأميركي على المدى البعيد. وهكذا فإن قرار خروج الولايات المتحدة من الاتفاق اليوم جاء مناسباً قبل أن يتمادى النظام الإيراني في ألاعيبه، بل إنه وضع نظام ولاية الفقيه في بين فكي كماشة.

ما تحمله لنا الأيام والأسابيع والأشهر القادمة سيكشف بأن إيران أصبحت في مأزق وبين خيارين أحلاهما مر، فقد سبب خروج الولايات المتحدة من الاتفاق تخبطاً وخلافاً بين قيادات النظام الإيراني حول؛ إما خروج إيران من الاتفاق، كما هددت مراراً قبل القرار الأميركي، أو بقائها فيه تلبية لرغبة الدول الأخرى. علما بأن إيران قد سعت جاهدة إلى إنقاذ الاتفاق باللجوء إلى جون كيري الراعي الأميركي السابق للاتفاق من خلال عقد اجتماعات سرية بين كيري وظريف في أوروبا، وكذلك الاجتماع مع بعض قادة الدول الأوروبية. وفي كل الأحوال يأتي بقاء إيران في الاتفاق على مضض من أجل كسب رضى وود المجموعة الأوروبية إلى جانب روسيا والصين وفي سبيل الإبقاء على المكاسب الاقتصادية، بالإضافة إلى وهم النظام الإيراني بأنه يمكن أن يوجد شرخاً في العلاقات الأميركية - الأوروبية، كما جاء على لسان حقيقت بور مستشار مجلس الشورى الإسلامي.

مما لا شك فيه أن إيران ستكون مقيدة مع بقائها على مضض في هذا الاتفاق ومعرضة للضغوط السياسية والاقتصادية من قبل الدول الغربية في سبيل تغيير سلوكها رغماً عنها، وهو الأمر الذي بدأ يؤثر فعلاً في انحسار تدخلات إيران الظاهرية في كل من العراق وسوريا واليمن. أما إذا قررت إيران الخروج من الاتفاق ومزاولتها لأنشطتها وبرنامجها النووي المشبوه وهو الأمر الذي بدأت تلوح به معلنة معاودة أنشطة تخصيب اليورانيوم، فإن ذلك سيفقدها تأييد دول المجموعة الأوروبية بل والأمم المتحدة، وستصبح إيران مهددة من قبل الولايات المتحدة الأميركية إلى جانب الدول الغربية اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً بشكل متزايد، وغالباً لن تجد إيران تأييداً ودعماً روسياً وصينياً كما كان عليه الأمر قبل بداية المفاوضات، خاصة أن قضية نزع السلاح النووي لكوريا الشمالية هو الآن قيد المفاوضات وجميع الدول ترغب في إنجاحه.

قد لا تكون تلك لعبة أو تكتيك غربي مخطط مسبقاً وأهدافه مقصودة، ولكنه بكل الأحول ستكون نتائجه الاستراتيجية في مصلحة دول الغرب ودول الشرق الأوسط والخليج العربي التي عانت من تدخلات إيران السافرة وتسببها في زعزعة الاستقرار في المنطقة على مدى طويل. حتماً سنشهد في المرحلة القادمة مزيداً من تخبط وإفلاس نظام الملالي الإيراني، وبدء انحسار الدور المزعزع للاستقرار الذي لعبته إيران على مدى السنوات الماضية. لقد انكشفت لعبة إيران من خلال ممارساتها ورغبتها في الهيمنة، وحتماً ستتضح معالم استراتيجيتها العقيمة في الأسابيع والأشهر القليلة القادمة لكل من لم يدركها. وفي حال بقاء إيران في الاتفاق ستجبر على تغيير سلوكها واستراتيجيتها تماماً، وذلك بالانسحاب من سوريا وتقليل تدخلها في العراق ولبنان ووقف دعمها للحوثيين في اليمن، وسينتج عن ذلك انكشاف خداع نظام ولاية الفقيه للشعب الإيراني وسيضطر لمواجهة مزيد من السخط الشعبي داخل إيران. وفي حال قررت طهران الخروج من الاتفاق ستجد نفسها تواجه الدول الراعية للاتفاق النووي إلى جانب الأمم المتحدة، الأمر الذي قد يضطرها لفتح مواجهة عسكرية شاملة في المنطقة.

يعتبر الاتفاق النووي مع إيران سيئاً للغاية بجميع المعايير، فقد جاء متأخراً ولا يوفر الضمانات الكافية بعدم امتلاك إيران للأسلحة النووية بغض النظر عن شهادة الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن إيران ملتزمة بالاتفاق، وتتضح بعض مساوئ هذا الاتفاق من خلال الآتي: جاء الاتفاق بعد فترة طويلة من الزمن كانت قد استغلتها إيران لاستكمال كافة البنى التحتية اللازمة لمشروع السلاح النووي، علماً بأن الاتفاق لم يلزمها بإزالة بعض القدرات غير الضرورية للبرنامج النووي السلمي، كما استغلت هذه الفترة لإيجاد وتطوير الخبرات اللازمة والقدرات الفنية المختلفة، بما في ذلك قدرات التخصيب إلى مراحل متقدمة، ولم يبق أمام إيران سوى إعداد الرؤوس النووية وإجراء التجارب، وهذا الأمر يمكن إنجازه خلال فترة قصيرة نسبياً فور انقضاء فترة الاتفاق وهي عشر سنوات، أو في حال الانسحاب من الاتفاق.

الأهم من ذلك كله هو أن إيران طورت برنامجها الصاروخي دون أن تكترث للنداءات الدولية بضرورة وضع حد له. لقد استغلت إيران فترة الاتفاق لبناء القدرة الصاروخية القصيرة والمتوسطة المدى، بل إن إطلاق الصواريخ الباليستية من اليمن على المملكة العربية السعودية الشقيقة إنما كان حقلاً للتجارب الإيرانية على يد الحوثيين، إلى جانب أنه عدوان سافر غير مقبول دولياً، وهكذا تعتبر القدرة الصاروخية الباليستية مهمة جداً ومن السهولة ارتباطها ببرنامج تطوير السلاح النووي، ذلك أن الصواريخ الباليستية هي على رأس قائمة الأدوات التي يمكنها حمل الرؤوس النووية لتصبح بأهمية السلاح النووي ذاته.

ختاماً، يبقى تقييم النوايا والممارسات العدوانية لأي دولة تسعى لامتلاك أسلحة نووية سبباً أدعى للمجتمع الدولي للوقوف بشكل صارم في وجه إيران ومنعها ولو بالقوة من تطوير السلاح النووي. ولكن إن تمكنت طهران من امتلاك السلاح النووي ستكون في وجهها عدة دول قريبة وبعيدة لديها قدرات تفوقها، ولو ساورت إيران الرغبة بإطلاق صواريخها على الدول المجاورة أو البعيدة كما تهدد من وقت لآخر، ستكون مقدراتها في مرمى النيران من كل صوب. وهنا نقول لإيران؛ اعقلي وعودي إلى رشدك واهتمي بحل مشاكل شعبك المتراكمة، وكوني دولة عصرية وحضارية، ودعي عنك جانباً حلماً عصياً قائماً على رغبة الهيمنة، وإعادة إحياء الإمبراطورية الفارسية البائدة والمبنية على الكراهية التاريخية للعرب، ولا تحلمي كذلك بحكم العالم الإسلامي من خلال نظرة مذهبية ضيقة وعنصرية دينية متزمتة منطلقها لا تختلف عن نهج «داعش» و«القاعدة».