سمير الزبن 

كانت النكبة في العام 1948 عنواناً لانكسار المستقبل العربي، وعلى المستوى الفلسطيني شكلت تدميراً للوطن والمجتمع الفلسطينيين. وبات التاريخ الوطني الفلسطيني والتاريخ القومي العربي بعدها مختلفَين عما سبق، بحيث شكلت النكبة حدثاً تأسيسياً في الواقعين الفلسطيني والعربي، وانقطاعاً تاريخياً، ليس فقط لأنه رسم خريطة جديدة للمنطقة وخلق واقعاً سياسياً ضاغطاً على الجميع في المنطقة، بل لأنه شكل انقطاعاً ثقافياً بحاجة إلى إجابة ثقافية عن سؤال تجاوز سؤال شكيب ارسلان: لماذا تقدم الغرب ولماذا تأخرنا؟ والذي أصبح: لماذا هُزمنا ولماذا انتصروا؟

ظهر المشروع القومي في لحظة من لحظات تاريخ المنطقة كأنه الرد على سؤال الهزيمة. وباتت استعادة الحلم الفلسطيني مسألة وقت ليس إلا، فـ «العملاق» العربي خرج من القمقم ولا أحد يستطيع إعادته، فهذا «العملاق» هو الذي سيعيد المنطقة إلى سياقها الطبيعي وسيعيد للعرب كرامتهم وحريتهم وأرضهم السليبة. ولكن الحكاية أخذت مساراً آخر في 1967، فإذا كان المشروع الصهيوني قد هَزَمَ عند تأسيسه جيوش الدول العربية المستعمَرة أو الخارجة حديثاً من الاستعمار، فإنه في 1967 لم يهزم الأنظمة القائمة فحسب، بل هزم المشروع المستقبلي العربي أيضاً، على افتراض أن المشروع القومي كان إجابة حقيقية عن أسئلة المستقبل.

إن تسمية هزيمة 1948 بـ «النكبة» وهزيمة 1967 بـ «النكسة» كانت تعبيراً عن العجز العربي في مواجهة المشكلة حتى من خلال الاعتراف بحقيقة ما حصل، حتى يتم التعامل مع الظروف القائمة بواقعية. كانت التسميتان احتياليتين، حاول مخترعوهما حجب الواقع الحقيقي، واستبداله بكلمات مخففة لهول الحدث التاريخي، وبالتالي استُخدمتا تاريخياً للتغطية على حقيقة ما جرى تعمية على الواقع القائم. ولا شك، في أنها كانت مصطلحات تبريرية، تبرر بقاء السلطة بعد هزيمتها، وأن ما جرى ليس سوى نكسة صغيرة الى الوراء، وأن هذه النكسة لن توقف المشروع القومي. وبذلك ما زال المشروع القومي مستمراً وأنه سيتجاوز نكسته وسيرد على العدوان وسيستعيد الأرض التي سلبت لاحقاً وسابقاً. ومن مفارقات حقبة ما بعد حرب 1967، أن تم رفع شعار «إزالة آثار العدوان» وكانت الهزيمة المدوية لثلاث دول واحتلال أراضي تعادل خمسة أضعاف ما كانت تحتله إسرائيل قبل ذلك، هو مجرد عدوان فقط لا غير. بدأ المشروع القومي يدخل المستنقع بعد هزيمة 1967، وبعد حرب 1973 التي اعتُبرت من جانب أصحاب المشروع القومي رد اعتبار، على رغم أنها لم تستطع أن تستعيد أي أرض تذكر، وأخذ المشروع القومي بعد الاستنقاع بالتعفن.


مع تصدع المشروع القومي، وفشله في التصدي للمهمات التي ألقاها على نفسه بالنسبة للقضية الفلسطينية، كان الرد الوطني الفلسطيني، بأولوية الوطني على القومي في التعامل مع القضية الفلسطينية، مع إنجازات رمزية مثل معركة الكرامة في 1968 التي تصدت فيها مجموعة من الفدائيين لقوات إسرائيلية وأحرزت نصراً موقعياً يحسب لها. كانت أسطورة الوطني وقدرته على إنجاز تحرير كامل التراب الفلسطيني تحلق في السماء، وإن تحرير فلسطين هو الذي يحقق الوحدة العربية، على عكس الشعار السابق «الوحدة العربية هي الطريق إلى تحرير فلسطين» وكل ما فشل فيه المشروع القومي تم إسناده إلى المشروع الوطني الفلسطيني، الذي أعاد الوجود الفلسطيني إلى الخريطة السياسية في المنطقة، وحمل الهمّ الفلسطيني وجعل الشعب الذي حاول المشروع الصهيوني تكنيسه تحت سجادة المنطقة، إلى جزء أساسي من معادلة المنطقة.

لكن مهمة التحرير الكامل للوطن السليب كانت أكبر من قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية. لذلك، خلال سنوات قليلة وبفعل الوقائع التي أخذت تتكرس على الأرض، بدأت حركة التحرر المحلقة في سماء الحلم تنزل إلى أرض الواقع، لتتحول إلى عضو في النظام العربي الرسمي، ومن ثم تبحث عن آلية للتكيف مع ممكنات المعطيات السياسية في المنطقة، وبدأ البحث مبكراً بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 عن كيفية دخول حركة التحرر في إطار التسوية المحتملة بعد تلك الحرب التي تقوم فعلياً على معطيات ما بعد هزيمة 1967، فكان الشعار الشهير ببناء «السلطة الوطنية» على أي جزء يتحرر من فلسطين، وكان هذا الشعار مدخلاً لتحويل حركة التحرر الفلسطينية إلى جزء من آليات عمل المنطقة وقواها الإقليمية. وعداك عن أخطاء الحركة الوطنية الفلسطينية، كان يجب تأديبها عدة مرات حتى تتكيف مع الواقع القائم، وكان التكيف النهائي بتوقيع اتفاق أوسلو الذي أدخل حركة التحرير إلى وطنها كسلطة من دون أن تتحرر هذه الأرض من الاحتلال الإسرائيلي، ومن دون أن يتم الاعتراف بأن الأرض التي تقيم سلطتها عليها هي أرضها، بل تم التعامل معها بوصفها «أراضي متنازعاً عليها». وتحولت المفاوضات من أجل المفاوضات قبل أن تتوقف نهائياً، ومفاوضات الوضع النهائي التي كان يفترض أن تنتهي في 1999 لم تبدأ ولم تنتهِ، وبات الحل الانتقالي حلاً نهائياً في ظل دعوات مستمرة إلى المفاوضات، لم تبدأ ولن تبدأ، يستمر الوضع منذ عشرين عاماً على هذه الحال، وليس من المستغرب أن يستمر إلى ما لا نهاية.

وتحولت «المقاومة» التي قالت بها حماس التي سيطرت على قطاع غزة إلى سلطة تمارس أردأ من ممارسات السلطات في العالم العربي، وأصبحت «المقاومة» شعاراً ترفعه سلطة أمر واقع للاستهلاك المحلي، وتمارس ما اشتكت منه لسنوات بوصفه ممارسات ظالمة.

لا نجافي الصواب إذا قلنا إن القضية الفلسطينية، في ظل الواقعين العربي والفلسطيني، تسير باتجاه التفكك، بخاصة مع وجود أوضاع كارثية في بلدان عربية أخرى، تنافس القضية الفلسطينية في كارثيتها، بل تتفوق عليها في مأسويتها.