حسام عيتاني 

على رقعة من الأرض تكاد لا تكفي لرفع علم، لجأت السلطة الفلسطينية إلى الأسلوب الذي لا تحيد عنه أي سلطة عربية في التعامل مع معارضيها ومع المحتجين على قراراتها الاعتباطية: القمع والضرب والسحل.


قرار منع التظاهرات في رام الله بذريعة تسيير أمور المواطنين أثناء فترة الأعياد، نُفذ بالقوة ضد مجموعات من الفلسطينيين خرجت للاعتراض على العقوبات التي فرضتها حكومة محمود عباس على قطاع غزة. المتظاهرون حاولوا لفت الانتباه إلى الحد الأدنى الضروري من الوحدة الوطنية والتضامن مع أهالي القطاع الذين يتعرضون لحصار المعابر ولعدوان عسكري وفوق ذلك يخضعون لحكم «حماس». حكومة رام الله تمسكت بالعقوبات وبتخفيض الرواتب في إطار صراع فصائلي فئوي ألحق الضرر الجسيم بالقضية الفلسطينية.

دعونا من قصة إبريق الزيت الفتحاوية – الحمساوية التي لن ينجم عنها غير المزيد من الانقسام والاقتتال، ولنحاول وضع المسألة في سياق أعرض: لقد أصبح لدينا جملة من التجارب التي يصح وضعها تحت عنوان «سلطة ما بعد التحرير». ليس المقصود هنا السلطات التي قامت بعد نهاية الاستعمار التقليدي للدول العربية، بل أشكال الحكم في بلدان ومناطق تعرضت أخيراً لاحتلالات مختلفة وتمكنت من تحرير نفسها على نحو ما، وبدرجات متباينة من الكمال.

سمات مشتركة يتقاسمها لبنان بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوبه وغزة بعد خروج الاحتلال الإسرائيلي والمناطق المصنفة فئة «أ» في الضفة الغربية والعراق بعد انكفاء القوات الأميركية عنه. ثمة كثير من الانقسام الداخلي القابل في كل لحظة للتحول إلى عنف مسلح وحرب أهلية. افتتح لبنان أزمته المستمرة إلى اليوم بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 2005، بيد أن تباشيرها ظهرت في السجال حول إرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب بعد التحرير في 2000 ثم بيان المطارنة الموارنة الشهير في أيلول (سبتمر) من العام ذاته والذي دعا القوات السورية إلى إنهاء وجودها في لبنان بعد الخروج الإسرائيلي.

حروب «حماس» و «فتح» وصراعاتهما التي وصلت إلى المذبحة المفتوحة في 2007، أشارت إلى عطب داخلي شبيه بالعطب اللبناني من زوايا عدة. الأمر ذاته في العراق الذي يبدو أن النزاعات داخل «مكوناته» تكاد تحجب الصراعات بين المكونات الشيعية والسنية والكردية، على ما بينت النتائج التي أفضت إليها الانتخابات التشريعية الأخيرة.

مدونة سلوك المُحررين الذين حققوا نجاحاً ما في بلادهم - إذا وافقنا على دور القوى المهيمنة على الساحات المذكورة أعلاه في التحرير- تتشابه في النزوع السلطوي وفي الدوس على الحريات العامة وإنكار حق الآخرين في الاختلاف والتعبير عنه وتنظيمه وإدارته. عليه، يسهل توقع شكل الأنظمة التي سيقيمها أشخاص مثل قادة «حماس» أو مسؤولي السلطة الفلسطينية إذا نجحوا في التخلص من ربقة الاحتلال الإسرائيلي. ولن يكون هذا الشكل مختلفاً عما أقيم في لبنان أو العراق. ولن ينفصل عن منظومة الدول العربية التي أعادت إنتاج استبدادها بعد فشل الثورات العربية.

يعيدنا هذا كله إلى الافتراق العميق في العالم العربي بين قضية التحرير الذي يرمي إلى التخلص من الاحتلال والسيطرة الأجنبيين، وبين التحرر الذي يهتم ببناء المجتمع والدولة ومؤسساتهما بعد الانعتاق من حكم الخارج الاحتلالي. كل نماذج «التحرير» التي أمامنا لا تني تكرر نموذج الدولة العربية الاستبدادية بأسوأ أشكالها، ما يبرر التفكير بـ «أصالة» هذا النموذج للسلطة والحكم ليُذكر بعودٍ أبدي إلى مقولة استدعاء الطغاة للغزاة.