حسن حنفي

بين الحين والآخر، نقرأ قصصاً حول بيع أعضاء بشرية بسبب الحاجة وضيق ذات اليد. ووفقاً لهذه القصص التي ينشرها الإعلام، فإن هناك مستشفيات محددة وأطباء معروفون يقومون بهذه التجارة، والتي تصل فيها الكلية إلى مئات الدولارات.

لقد ورثنا ثقافة ثنائية بين النفس والبدن، الروح والجسد؛ الثاني فان لا قيمة له، والأولى باقية ودائمة.. لذلك وضع الجسد للبيع والتجارة. وبفضل تجارة الجسد يتم التحول من الفقر إلى الغنى، ومن العشوائيات إلى التجمعات الراقية. وتجارة الجسد ليست فقط تجارة الأعضاء، ولكنها تجارة الجسد كله، وتجارة الأعضاء تمثل نظرة جزئية لتجارة الجسد. وتجارة الجسد نظرة كلية لتجارة الأعضاء.

وكما مثلت النفس الموضوع الرئيس في الفلسفة الحديثة في الغرب، وفي الفلسفة الإسلامية أيضاً، أصبح الجسد الموضوع المركزي في الفلسفة المعاصرة عند الفلاسفة الوجوديين. فالجسد هو الوجود. وحين يكون الجسد حاضراً يكون المتهم موجوداً. يُنادى على المتهم فيقول: موجود، أي حاضر بجسمه، وإلا كان غائباً، على عكس ما يقوله الصوفية والمحبون من أن الحضور هو الغياب والغياب هو الحضور. الجسد هو اللغة عن طريق اللسان بما في ذلك لغة الإشارة، وعن طريق اللغة يقع التفاهم بين الأفراد. والجسد هو الحركة؛ فلا يستطيع القعيد أن يتحرك إلا على عربة متحركة. والجسد للوداع والاستقبال بما في ذلك الأحضان والقبلات. والحزن بالجسد عن طريق الدموع. والدفاع عن طريق الجسد.. الجسد هو العمل، والعامل بجسده، أي بيديه أو ساقيه أو هما معاً.

وتجارة الأعضاء للأعضاء المزدوجة، مثل الكلية، إذ يعيش الإنسان بكلية واحدة، والعين، إذ يستطيع الرؤية بعين واحدة أيضاً حتى ولو كان أعورا، كما يعيش بيد واحدة، وبساق واحدة... إلخ. وتكون التجارة أيضاً للعضو الواحد مثل الكبد أو القلب، إذ تباع هذه الأعضاء وتُشترى بعد وفاة صاحبها.

ثم تأتي تجارة الجسد كله عبر بيعه من الفقراء إلى الأغنياء، بوساطة زواج كبار السن بالفتيات القاصرات؛ فيبيع الأب ابنته من أجل آلاف الدولارات كي يعيش أو يحج. فالأب يملك جسد ابنته، والجسد سلعة قابلة للبيع.

لذلك تسمح بعض الثقافات الموروثة بالتعامل مع الجسد كقطعة من اللحم، وتسمح بإهانته من خلال العقوبات البدنية، وصولاً إلى الإعدام كأسلوب لإنهاء الوجود. فالإعدام هو محو للجسد في حين أن الفعل المجرَّم هو مجرد جزء من الوجود. فكيف يتساوى الكل مع الجزء؟ لذلك ألغت بعض الدول عقوبة الإعدام، وحوّلتها إلى سجن مؤبد، أي منع الجسد من الحركة والتعامل مع الآخرين. لذلك لا ينفذ حكم الإعدام في الشريعة الإسلامية إلا بعد تعذر العفو، عفو أهل القتيل عن القاتل أو دفع الدية. يقول تعالى: «وَإِنْ ‬عَاقَبْتُمْ ‬فَعَاقِبُوا ‬بِمِثْلِ ‬مَا ‬عُوقِبْتُمْ ‬بِهِ ‬وَلَئِنْ ‬صَبَرْتُمْ ‬لَهُوَ ‬خَيْرٌ ‬لِلصَّابِرِينَ». ‬

قاتل الله الفقر الذي جعل الإنسان عرضة للقيل والقال، وسوقاً للنخاسة. وكما قال عمر بن الخطاب: «والله لو كان الفقر رجلا لقتلته». وعجباً للآباء الذين يقتلون بناتهم لأنهن فرطن في شرفهن، وللمجتمع الذي يعترض على حب حسن لنعيمة، وحب نعيمة لحسن.. وفي الوقت ذاته، يبيع فتياته للأغنياء من رجاله! أليست هذه عبودية جديدة، عبودية الفقراء للأغنياء؟

وفي الواقع، كثيراً ما رأينا فتاة قاصر تعود بعد حوالي تسعة أشهر من زواجها وهي تحمل طفلاً على ذراعيها سيعيش بعيداً عن حنان الأب، كما ستعيش هي بعيدة عن حضن الزوج.. فقد تناولت الثمن من قبل!

فمتى يتم احترام هؤلاء الفتيات؟ ومتى تتم حمايتهن من مظاهر العبودية الجديدة، عبودية الغني للفقير؟ متى تتغير هذه الصورة النمطية المعتادة، وتنتهي إلى الأبد ظاهرة المتاجرة بالأجساد؟