هالة مصطفى 

فى خطابه بعد حلف اليمين الدستورية للولاية الثانية، الذى حدد فيه ملامح الفترة المقبلة، كانت الثقافة فى مقدمة الأولويات التى ركز عليها الرئيس عبد الفتاح السيسى وتستحق التوقف عندها، لأنها غابت طويلا عن الأحاديث السياسية، فبها تستعيد الدولة هويتها المدنية الحديثة ومصادر قوتها الناعمة، التى وفرت لها دورا رائدا عبر تاريخها المعاصر، وتناولها فى الخطاب هو بمثابة إعادة الاعتبار لها وتصحيح لأوضاع طالما تجاهلت هذا العنصر الحيوى حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من تدهور ثقافى، ففى أزمنة ماضية كانت الثقافة المصرية بما تحتويه من مسرح وسينما وفن تشكيلى وموسيقى وأغان وأدب ورواية من أهم ما نصدره إلى العالم، بل كانت أيضا منبعا للأفكار التنويرية الكبرى التى اجتاحت المنطقة وتركت بصمة لا تُمحى لم تنافسها فيها دولة أخرى، ومنذ أيام فقط أعادت شبكة بى بى سى البريطانية عرض فيلم وثائقى باسم (حكايات مصرية) عن أيقونات الباليه، أى الفنون الرفيعة التى ميزت مصر لعقود كانت فيها الثقافة المتنوعة أو «الكوزموبوليتان» التى تحتضن جميع الجنسيات والأديان فى امتزاج فريد، هى السائدة قبل أن تتحول إلى ثقافة رجعية منغلقة منذ السبعينيات، حين عصفت بها تيارات وقوى الإسلام السياسى، والتى رمز لها الفيلم بحريق الأوبرا فى بداية هذا العقد.

لكن الأخطر من ذلك هو الاستسلام لتلك الثقافة الرجعية سواء عن نفاق أو مزايدة أو تقاعس عن القيام بالدور المفترض فى مقاومتها، وهذه مسئولية الجميع دولة ومجتمعا.

بداية لابد من الاعتراف بأن تجربة التنوير والتحديث ارتبطت فى الأساس بالأفراد ولم تأخذ الشكل المؤسسي، الذى يجعل منها تيارا غالبا يسود على ما عداه، لذلك نتحدث عن شخصيات رائدة فى هذا المجال بدءا من الطهطاوى ومحمد عبده إلى طه حسين وأحمد لطفى السيد وقاسم أمين وسلامة موسى وعلى عبد الرازق، ثم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وعشرات الأسماء الأخرى، التى سعت لرفع الوصاية عن العقل وأرست جسرا للتواصل مع الحضارة الغربية والثقافة العصرية، كان هؤلاء من المجددين المصلحين الذين اقترب نهجهم من مثيله عند فلاسفة ومفكرى عصر النهضة الأوروبية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والذى أفضى إلى ظهور أوروبا كقوة متقدمة ذات حضارة متفوقة،هى تلك التى نعرفها اليوم، لكن الفارق أن المساهمات الأخيرة لم تشهد انقطاعا وإنما تحولت إلى اتجاه عام سائد هزم ما عداه من تيارات وقوى مناوئة للتغيير، حدث عكس ذلك عندنا، إذ تمت محاربة أصحاب الفكر المجدد ووقفت السلطتان السياسية والدينية ضدهم ومن ثم فقدت الحركة التنويرية قوة الدفع اللازمة للاستمرار وتوسيع قاعدتها، باختصار بقيت مساهمات التحديث متفرقة، أشبه بالجزر المنعزلة وسط اتجاهات ثقافية تقليدية وأخرى متطرفة، والأكثر من ذلك أننا لم نعد نُقدم أصلا قامات فكرية بهذا الوزن.

إن هذه الاشكالية المزمنة، تُفسر جانبا كبيرا من أزمتنا الثقافية، التى هى بدورها جزء من أزمة الثقافة العربية والإسلامية، فلو كان البنيان الثقافى قويا متماسكا متجانسا، ما مكن للسلفية الفكرية والأيديولوجيات المتطرفة من اختراقه واستباحته إلى درجة الغلبة، فالثقافة القوية الحية ترفض تلقائيا كل ما يناقض قيمها الأساسية وتهمشه، وتكون بنفس القياس قادرة على المضى إلى الأمام، لا الارتداد إلى الخلف.

فى هذا السياق يمكن التعرض لبعض الأمثلة الحالية التى تدل على هذا الضعف، ومنها عدم قدرتنا إلى الآن على تجديد الخطاب الدينى ومراجعة التراث وكتب الحديث، التى تتخذ الجماعات السياسية الاسلامية من بعض ما جاء فيها مبررا لأعمالها العدوانية ولدعواتها فى التكفير والتمييز والطائفية، خاصة أن تاريخ الفكر الإسلامى مثلما شهد لحظات مشرقة فقد عانى فى المقابل من التراجع والتزمت والأفول الفكرى والفقهى فى فترات أخرى، لكن للأسف اختزلت محاولات التجديد فى معركة كلامية لا طائل من ورائها حول «البخارى» تحديدا، ثم أُغلق الملف، وهو تقريبا ما تكرر بخصوص الفتاوى المجافية للمنطق، والتى انتشرت مؤخرا ووجدت فى وسائل الإعلام الباحثة عن الإثارة سبيلا للنفاذ إلى الرأى العام وجرفه ناحية ثقافتها الرجعية، كذلك ظل نظامنا التعليمى المتدهور أساسا، يئن تحت وطأة الازدواجية بين التعليم الأزهرى بكلياته ومعاهده الداخلة فى مختلف أفرع العلوم الانسانية، وبين التعليم المدنى الحديث، رغم أن التخصص الطبيعى للأول يجب أن ينصرف لتدريس علوم الدين، وهو ما قاد بالتبعية إلى أزمة «هوية» لدى المواطن المصرى.

لم تكن مؤسساتنا المدنية أيضا بمعزل عن الأزمة، وتكفى الإشارة إلى الأداء البرلمانى شديد السلبية على الصعيد الثقافى، فتارة يعمد لتجريم أفكار كبار الكتاب كما حدث فى محاولة منع بعض روايات نجيب محفوظ، وتارة أخرى يسعى إلى استصدار قوانين سالبة للحريات المنصوص عليها دستوريا ومقيدة للإبداع، كإهانة الرموز، والاساءة لسمعة مصر، على غرار قانون ازدراء الأديان، والتى تندرج كلها تحت مفهوم الحسبة، رغم أنه كان المتوقع من المؤسسة التشريعية الغاء القانون الأخير، الذى أصبح سيفا مصلتا على جميع فئات المجتمع، وليس محاولة استنساخه بدعوى حماية القيم والأخلاق، وتحت نفس الدعوى استشرت فى الآونة الأخيرة ظاهرة تعقب الأفراد وتقديم بلاغات ضدهم للنائب العام، حتى اقتربت من الظواهر المرضية، ليس لها من وظيفة سوى ملء فراغ ساعات الإرسال الإعلامى المهدرة لبرامج التوك شو، وعلى نفس المنوال وتحت نفس الدعوة، شُكلت مؤخرا لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام كجهة رقابية عقابية تقرر الغرامات على مشهد أو لفظ هنا أوهناك، وكأنه ليست هناك جهات رقابية رسمية للدولة، ورغم ذلك، فهذه ليست المشكلة الوحيدة وإنما المعضلة الحقيقية تكمن فى طبيعة كل تلك المعالجات السطحية، التى لا تقود إلى تطور ملموس للمناخ الثقافى العام، أما وزارة الثقافة فى عهودها الأخيرة، والتى تشكو دائما من نقص مواردها وتواضع مخصصاتها فى ميزانية الدولة، فلم تعُرف لها سياسة محددة، أو رؤية تسعى لتطبيقها بخلاف انصرافها للمناسبات والمظاهر الاحتفالية.

إن حال ثقافتنا اليوم يدور فى حلقة مفرغة، كحال البطل الإغريقى فى أسطورة «سيزيف» الذى عاقبته الآلهة بحمل حجر إلى أعلى الجبل، ما يلبث أن يتدحرج إلى أسفل ثم يعيد الكّرة مرات ومرات فى حركة عبثية تنتهى إلى لا شىء، لا نريد أن نكون كذلك، ولا شك أن دعوة الرئيس مدخل مهم لمراجعة أنفسنا، فالتخلف الثقافى ليس قدرا محتوما.