عبدالحق عزوزي

 عندما أنظر إلى أحوال بعض دول الوطن العربي، أستحضر ملتقى جريدة «الاتحاد» الفريد والمتميز الذي عقد منذ سنتين في أبوظبي، وكان محوره «الوطن العربي بعد مئة سنة على اتفاقية سايكس بيكو»، وهي واحدة - كما قلت آنذاك - من المؤامرات المتتالية التي قسمت ومزقت الوطن العربي، وجعلته يعيش ويلات التشرذم والصراعات والاختراقات المتتالية.

وكل مرة تأتي موجة إلا وتتبعها مخططات مبيتة ومدروسة تأتي على الأخضر واليابس. قارن مع ما يُسمى «الربيع العربي» الذي انطلق من تونس أواخر 2010 وأعطى ما يمكن أن نسميه مع آخرين بسراب الثورة، وواقع اللاثورة، فمرور ما يزيد على عدة سنوات عن تفجرها يعطي لنا إمكانية دراسة ديناميتها وآثارها والتحولات الممكنة. فهناك أقطار تواجدت في مركز الهزات الثورية التي تمخض عنها انهيارات متتالية ومتفاوتة الدرجة لأنظمة سياسية في تونس ومصر وليبيا واليمن، وهناك أقطار تتهاوى القشرة الحامية لها وللمؤسسات كسوريا، وهناك أقطار وقعت في خط ارتداداتها بسبب الجيرة، وهي عمان والأردن والجزائر والمغرب. ومربط الفرس في هذا التمييز يمكن من التفرقة بين دول «الثورات» العاتية، حيث إن بعضها لم تتبعها موجات متزنة ومدروسة من التثبيت والتجذير الديمقراطي فكانت الكارثة، ومثلها كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، وأفضل مثال ذلك هو ليبيا؛ وبين دول الثورات التي تعاني ويلات هذا الوابل، حيث إن الانفلات الأمني والفراغ المؤسساتي وظهور إرهاب لم يعهده تاريخ الانتقالات الديمقراطية جعلها في مستنقع اللاستقرار والانفجارات المدوية. ثم هناك دول تمكنت من تصور سياسات استباقية بفضل حزمة الإصلاحات السياسية القديمة وذكاء النخب المتواجدة في المجال السياسي العام، وأفضل مثال على ذلك هو المغرب.

ثم عندما أستحضر تجربة دول أخرى غير عربية، مثل الهند مثلًا، وهي دولة عرفت ويلات الاستعمار، ورغم ذلك فإننا نرى فيها مساراً تاريخياً وسياسياً مختلفاً عن ذلك الذي نشهده في أوطاننا؛ فهناك نرى قدرة الإنسان الهندي على التحدي وتحقيق المستحيل. منذ زمان والهند تتوفر على السلاح النووي. ولكن هذا لا يهم في مقالتنا، لأنه حتى كوريا الشمالية تتوفر على هذا السلاح؛ فالذي يهم هو أن الهند تستفيد اليوم من تطور بحثها العلمي ومن الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا المتطورة. ويستوقفني هنا رد المنظر الكبير في العلاقات الدولية «جوزيف ناي» على أولئك الذين قالوا بأن القوة الأميركية في اضمحلال مستمر. فمشكلة القوة الأميركية في القرن الحادي والعشرين، ليست مشكلة اضمحلال، بل مشكلة ما يجب فعله في ضوء إدراك أنه حتى الدولة الكبرى لا يمكنها تحقيق النتائج التي تريدها، من دون مساعدة الآخرين؛ فهناك عدد متزايد من التحديات التي ستقتضي من الولايات المتحدة الأميركية ممارسة القوة مع الآخرين، بقدر ممارسة القوة على الآخرين؛ مما يقتضي أيضاً فهماً أعمق للقوة، وكيف تتغير، ومعرفة كيفية وضع استراتيجيات للقوة الذكية تجمع بين موارد القوة الخشنة والقوة الناعمة في عصر المعلومات. والهند أضحت مجسدة لهذه القوة الذكية. تلك القوة في القرن الحادي والعشرين لا تعني عدد الرؤوس النووية، بل تعني إيجاد طرائق للجمع بين الموارد في استراتيجيات ناجحة وهادفة في مجال التنمية والابتكار. لذا يجمع المحللون الاقتصاديون أن الهند يمكن أن تحتل اقتصادياً المرتبة الثالثة عالمياً في حدود 2030 نظراً للتطور الهائل الذي يشهده القطاع الخاص الهندي.

وعندما يسألني العديد من الناس عما يجب فعله لتدارك صفحات التاريخ أعطيهم مثال البذلة القديمة التي يُرقعها الجميع، ثم ما يفتؤون ينقضون غزلها من بعد قوة أنكاثاً ليضعوا رقاعاً على رقاع؛ وكان بالإمكان خياطة بذلة جديدة تعفي الجميع من كل مساوئ الأولى؛ ومثل ذلك النمو الاقتصادي المستدام الذي يلزمه الابتكار، والذي لا يمكن أن ينفصل عن الدمار الخلاق الذي يحل الجديد محل القديم في عالم الاقتصاد وعالم الاجتماع وغير ذلك؛ وهذا كلام أظنه صائباً ويجد له مكاناً في عالمنا العربي، حيث إن الدمار الخلاق يجب أن يطرق فروعاً شتى وعلى رأسه التعليم، دون الحديث عن الاقتصاد ومجالات أخرى، وعيدكم مبارك سعيد.